يزيدُ الحدث حركة السرد زخماً وتشويقاً في العمل الروائي، ويتسارع الإيقاع كلّما تصاعدَ دور الحدث في النهوض بالشخصيات المتقيّدة بالأدوار المساندة أو المُكَمِّلة. فبالتالي، يكون إمتداد للحدث في مواقف الشخصيات، وبهذا يستمرُّ الترقّبُ والإفتراض بشأن ملابسات ما يترتبُ من الحدث الأساسي، وما يولّد على أثره من التفاوت في المرويات حول تشابك مصير الشخصيات.
هذا البرنامجُ في صياغة المادة السردية هو ما يشتغلُ عليه الكاتب الفرنسي «غيوم ميسو» في روايته «الصبية والليل». إذ تنطلقُ الرواية بثلاثة مشاهد، تذكّر القارئ بما يتوالى في بداية الأفلام السينمائية، عندما تظهر تواريخ معيّنة مصحوبة بحركات خاطفة للشخصيات، ويتمُ إدراك وظيفة هذه المؤشرات لاحقاً، كما يُفهم دور المكان المشار إليه ضمن المقاطع الأولى مع مضي السرد. فإنَّ موقع الـ»ليسيه سانت إكزوبيري» يصبحُ بؤرة للحدث الذي يتنظّمُ من خلاله تيار السرد، ويأبى المؤلّف إلّا أن يصعّد التوتر الدرامي في مستهلّ عمله، حيثُ تجدُ مانون، وهي خرّيجة «ليسه» نفسها أمام جثة هامدة، ويخترقُ صوتُ الصمت الذي يعقبُ الشعور بالصدمة، معترفاً بإرتكابه لجريمة القتل. ولا تكشفُ هوية الجاني وضحيته إلّا قبل الأجزاء الأخيرة من الرواية. وهنا تتبدّل المواقع وتدخلُ شخصيات أخرى في حلبة الحدث الدامي. وما أن يوكل بمهمة سرد الرواية إلى المتكلّم بالضمير الأول، حتى تنضمُّ أصوات جديدة إلى فضاء العمل، إذ يستدعي توماس ما أخبرهُ به صديقه عبر مكالمة هاتفية، مع أنَّه لا يتمّ الإعلان عن فحوى المكالمة، لكن الإستبطان الذاتي للراوي يوحي بأنَّ شبحاً ما ظهر قبل 25 سنة في مبنى الـ»ليسه»، فيلاحقه ويهدّد حياته.
طبعاً هذه الوضعية المتأزمة تأخذ المتلقّي نحو سلسلة من الإفتراضات والتوقّعات المسبقة، وبذلك يكونُ إيقاع العمل أقرب من نمط الروايات البوليسية والمطاردة.
شبكة الشخصيات
لا تخرج الشخصيات التي تتحرّكُ في مساحة الرواية من إطار البنية المكانية المحدّدة. ويستعرض الراوي زملاء الدراسة في «سانت إكزوبيري»، متأمّلاً ما فعله الزمن في وجوه البعض، فيما أصبحَ عدد من التلاميذ القدامى أكثر رشاقةً وجمالاً. وتتواردُ أسماء المشاركين في الإحتفال الذي أُقيم لمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس الـ»ليسيه»، لكن آلة السرد لا تتبعُ إلّا من يكونُ ضمن دائرة الحدث.
يبوحُ الراوي بأنَّه كان ينتظرُ بفارغ الصبر حلول الشيخوخة، ليطوي الزمنُ أثر ماضيه المثقل بسرٍ، إذا انكشفَ فذلك يعني إقتياده إلى مصير مشؤوم. عليه، نجحَ المؤلفُ في تغليف أجواء الرواية بالغموض، وذلك حين يتلقّى كلّ من توماس وماكسيم وفاني رسالة من مجهول. ومن ثمَّ يلمحُ الحديثُ إلى نهاية مأساوية لحياة فرنسيس والد ماكسيم، ولا يغيبُ التساؤل عن علاقة ذلك بمقتل كليمان، الذي توهمَّ توماس بأنّه كان عشيقاً لفاتنة الـ»ليسيه».
«فينكا» ولدت من مغامرة عاطفية بين والدتها الممثلة التي أُغرمت بمارك روكويل، وما أنْ تبلغ سنّ الصبا حتى تفقدُ والديها إثر كارثة جوية، وتنتقلُ إلى «سانت إكزوبيري» وتستأثر هناك بإهتمام الجميع. يقعُ الراوي في غرامها، وكانت مواصفات فينكا توهم القارئ بحسب كلام الراوي، بأنّه إذا توصل إلى إمتلاكها ينجحُ في إمتلاك العالم. ولعلَّ هذه الجملة هي ما يستعيدهُ ذهن المتلقّي، حينْ ينفتحُ قوس السرد على حزمة من الروايات المتضاربة حول مصير فينكا وحيثيات إختفائها.
الملاحظُ في ضيمة شخصيات الرواية، هو توافق مهنة هؤلاء مع سياق الحدث. فتوماس هو روائي، ستيفان بيانلي صحافي، دالانيغرا مصوّر، وكلود أنجوفين هو رئيس تحرير مطبوعة «نيس ماتان». وذلك ينبئ بأنَّ السرد يقومُ على ثيمة البحث.
إفتراض مضاد
غزت قصة الحب بين فينكا وأليكس كليمان «سانت إكزوبيري»، وتعدّدت الروايات حول إختفاء الإثنين، وانساق الأساتذة أيضاً إلى تيار الشائعات. لكن ستيفان بيانلي لا يركن إلى معلومات مُستهلكة، كما أنَّ آلاستير روكويل له رأي في تغيُّب حفيدته، ولا يستبعد عملية خطف منظّمة. والأهم في سيل المعلومات هو ما يرويه توماس عن فينكا، وما تسرّب عن علاقة الأخيرة بأستاذها، وإعترافه بما أثار لديه من حساسية وغيرة. ومن ثمَّ يقعُ نظره على الرسائل التي تؤكّدُ عشق أليكس لفينكا. ولكن لماذا تلوذُ بتوماس عندما تحلُّ بها أزمة صحيّة وتخبره بأنّها حاملُ؟
يستتبعُ ما تقولهُ ذات الشعر الأصهب عن مسؤولية ألكسيس عن واقعها المتأزم، وهو حدث يشتدُّ معه التوتر، إذ يتداعى في ذهن توماس محتوى رسائل ألكسيس، والحال هذه يتواطأُ مع صديقه على قتل العشيق، ولولا تدخّل فرنسيس بيانكارديني وقيامه بدفن الجثة داخل الجمنازيوم، لكان توماس موصوماً بالجريمة، وما تمكّن صديقه أيضاً من المشاركة في حملة ماكرون الإنتخابية. وما لبث أن يتمَ كشف مصير الصبية المجهولة على لسان فاني، عندما تعترفُ لتوماس بتورّطها في قتل فينكا بدسّ أقراص منوّمة في الشاي، ومن جديد يقومُ فرنسيس بالتعاون مع أنابيل بإخفاء الجثة في الجدار. مع تعاقب وحدات الرواية وبحث توماس عن سر المغلفات، يتأكّدُ بأنّ والده ليس ريشار إنما فرنسيس، ما يعني أنَّ ماكسيم هو شقيقه. والأهم من كل ما سبق ما يتوصّل إليه توماس عن العلاقة الجسدية بين ريشار وفينكا، حيثُ أقنعتها عشيقتها ألكسيس دوفيل بأن تنجب طفلاً، وبهذا تنقلبُ القصة وتتبادل الأدوار بين شخصياتها.