حكاية الطائفة الشيعية مع حقيبة وزارة المال عمرها من عمر «وثيقة الوفاق الوطني» المعروفة بـ»اتفاق الطائف» الذي أقرّه المؤتمر النيابي الذي انعقد في ايلول 1989 في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية.
وهذه الحكاية لم تنته فصولاً منذ ذلك التاريخ.
كان البحث في هذا المؤتمر يومذاك يركّز على إيجاد حل ينهي الحرب اللبنانية عبر الاتفاق على آلية لإنهاء الحرب التي دامت 17 عاماً وإجراء إصلاحات سياسية ودستورية تقيم سلطة سياسية متوازنة تشارك فيها كل المكونات اللبنانية السياسية والطائفية، وتطلق عهد الجمهورية الثانية على أنقاض الجمهورية الاولى التي أطلقها «الميثاق الوطني» عام 1943.
خلال مداولات المؤتمر بحثاً عن السلطة المتوازنة، طرح الجميع هواجسهم ومطالبهم على طاولة البحث من زاوية وجوب خروج المؤتمرين بحلّ متوازن يقيم العدالة بين اللبنانيين ويحقق سلطة مركزية يشارك الجميع فيها ويعبّر عنها بمجلس وزراء يضمّ ممثلين لكل القوى السياسية والطوائف والمذاهب، ويشكّل السلطة التنفيذية الجامعة بعدما كانت هذه السلطة بيَد رئيس الجمهورية حيث كان يتولاها بمعاونة وزراء يختار من بينهم رئيساً يسمّيه «رئيس الوزراء».
أُريدَ في «الطائف» من إسناد وزارة المال الى الطائفة الشيعية إحداث عرفٍ لمصلحتها أسوة بطوائف أُخرى استفادت ولا تزال تستفيد من أعراف مماثلة، وذلك بغية رفع غبن عنها وإشعارها أنها مشاركة فعلياً في السلطة التنفيذية، في اعتبار انّ توقيع وزير المال يُصاحب توقيعي رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، وربما وزراء آخرين، على غالبية المراسيم، وهذا التوقيع لازم ومُلزم، وذلك تعويضاً للطائفة الشيعية نقصاً في الدور الذي تؤديه الطوائف الأخرى ولا سيما منها الطائفة المارونية والطائفة السنية، في اعتبار أنهما والطائفة الشيعية الطوائف الثلاث الكبرى في البلد، وبموجب «الطائف» الذي أقرّ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في كل المواقع الرسمية والادارية في الدولة أعطيت هذه الطوائف الثلاث الاكبر حجماً والاكثر عدداً منحة «المثالثة ضمن المناصفة»، والتي تلحظ أن تكون حصص كلّ منها من تلك المواقع متساوية ضمن المناصفة، بمعنى أنّ عدد المواقع الوزارية والنيابية ووظائف الفئة الاولى يجب ان يكون متساوياً بين الطوائف الثلاثة من دون الإخلال بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، والتي تنتهي بحسب المادة 95 من الدستور بعد إقرار إلغاء الطائفية السياسية.
وعلى أساس هذه المثالثة ارتؤي الاتفاق على ان تسند وزارة المال عرفاً الى الطائفة الشيعية بما يليق بموقعها في المثالثة الى جانب الطائفتين الأخريين الكبيرتين، وقد أخرجت وزارة المال يومها من مبدأ المداورة التي ينص عليها «الطائف» وتالياً الدستور الذي انبثق فيه، بحيث لا تكون أي وزارة او موقع إداري في الفئة الاولى حكراً على طائفة بعينها.
وليس صحيحاً أنّ «الطائفيين» (نسبة الى الذين شاركوا في مؤتمر الطائف) عندما لحظوا إسناد هذه الوزارة للطائفة الشيعية قارنوها من حيث الدور بمواقع قيادة الحيش وحاكمية مصرف لبنان والنيابة العامة التمييزية والمديرية العامة لقوى الامن الداخلي ومديرية المخابرات في الجيش، وغيرها من المواقع الادارية الكبرى التي تتولاها الطائفتان المارونية والسنية، وإنما تمّ لحظ هذا الأمر لضرورات إقامة التوازن على مستوى السلطات الدستورية، فتوقيع وزير المال لقرار او مرسوم ليس كتوقيع مدير عام لقرار إداري ضمن نطاق إدارته، وإنما هو توقيع ذو صفة دستورية، ويرتبط بالتوازن داخل السلطة التنفيذية التي أريد لها ان تكون مناطة بمجلس الوزراء مجتمعاً بعدما كانت قبل «الطائف» مناطة برئيس الجمهورية حصراً.
وبعد التوصّل الى «اتفاق الطائف»، وفي أول حكومة شكّلت بناء على نصوصه وروحيته وكانت برئاسة الرئيس سليم الحص، ثم في حكومة الرئيس عمر كرامي الاولى أسندت وزارة المال تنفيذاً للعرف الذي اتفق عليه في مؤتمر الطائف للنائب الراحل علي الخليل، ثم أسندت في الحكومة التالية برئاسة الرئيس رشيد الصلح الى القاضي الدكتور اسعد دياب. ثم تعاقَب عليها في حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري هو نفسه بداية الى جانب رئاسته للحكومة، وكان يعيّن فؤاد السنيورة وزير دولة للشؤون المالية من 1992 الى 1998، ثم تولاها السنيورة في حكومتين للحريري من العام 2000 الى 2004.
بعد ذلك تعاقب عليها الياس سابا في حكومة عمر كرامي الثانية من 2004 الى 2005، ثم دميانوس قطار في حكومة نجيب ميقاتي الاولى، ثم جهاد أزعور في حكومة السنيورة من 2005 الى 2008، ثم محمد شطح من 2008 الى 2009، ثم ريّا الحسن في حكومة سعد الحريري الاولى من 2009 الى 2011، ثم محمد الصفدي في حكومة نجيب ميقاتي الثانية من 2011 الى 2014، الى أن عادت الى الطائفة الشيعية مع حكومة تمام سلام بين 2014 و2016، حيث تولّاها النائب علي حسن خليل، الذي تولّاها أيضاً في حكومة الحريري الثانية من 2016 الى 2019، ثم تولّاها ايضاً في حكومة الحريري الثالثة من 2019 الى 2020، الى الآن حيث يتولّاها غازي وزني في حكومة حسان دياب المستقيلة.
ولذلك، يقول مطلعون على موقف الثنائي الشيعي انه ليس في وارد التخلّي عن وزارة المال لأسباب تتصل بحقّه في التوازن مع الآخرين في السلطة، ولا علاقة لموقفه هنا لا بالعقوبات الاميركية الجديدة او السابقة، فهو اكثر من ذلك يشعر انّ الجميع، وبينهم حلفاء، يستضعفونه ويحاولون التفرّد به واستهدافه بالتعاون مع قوى خارجية في هذه المرحلة ظنّاً منهم انه بات لَيّن العريكة. ويشعر الثنائي انّ البعض يتعامل معه بنزعة تصل الى حدود «العنصرية»، وانّ كثيرين ممّن ارتكبوا فساداً او موبقات وجدوا ضالّتهم فيه للهروب من المحاسبة التي اقتربت ساعتها ليرمونها عليه ويتهمونه بأنّه سبب خراب «بصرة لبنان» وكل الازمات التي أوصَلت البلاد الى الانهيار.
واستدلّ الثنائي الشيعي الى هذه «النزعة العنصرية» والى محاولة البعض فَرض طوق عليه من خلال ما دار بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف مصطفى اديب، الذي رفض إعطاء الطائفة الشيعية اي حقيبة سيادية (لا الداخلية ولا الخارجية ولا الدفاع) بديلاً من وزارة المال، مؤكداً ان لا مصلحة للبنان أمام الخارج في أن يتولّى الشيعة أيّاً من هذه الوزارات السيادية والحساسة، خصوصاً في هذه المرحلة. ولذلك فشل اللقاء بينهما، ويبدو انّ كل اللقاءات المقبلة المماثلة ستفشل لأنّ عون على رغم تأييده المداورة، وبحسب عارفيه، لن يوقّع مراسيم حكومة لا تلحظ وزارة المال للطائفة الشيعية او وزارة سيادية غيرها في حال قبل «الثنائي الشيعي» أن تشملها المداورة...
ولذلك، يعتقد معنيون بالتأليف اّن الحكومة اذا لم تولد خلال ما تبقّى من هذا الاسبوع، فإنه قد لا تكون للبنان حكومة إلّا بعد الانتخابات الاميركية المقررة في خلال العشر الاوائل من تشرين الثاني، وفي هذه الحال ستطول إقامة حكومة الرئيس حسان دياب في تصريف الاعمال الى ذلك الحين.