أدونيس: المنشقّ العظيم
أدونيس: المنشقّ العظيم
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Wednesday, 16-Sep-2020 06:26
يقسو التاريخ على المنشقّين قبل أن ينصفهم بعد مرور زمن، حيث تُطوى صفحة جيل وتأتي أجيال جديدة. كان نيتشه يقولُ بأنَّ كتبه سوف تقرأُ في سنة 2000 أي بعد رحيله بمئة سنةٍ، تحققت نبوءته قبل ذلك الموعد، عندما اعترفَ عددُ من معاصريه بنبوغه، ولعلَّ الناقد الدنماركي جورج براندز هو من أبرز المحتفين بفلسفة نيتشه، كما وصفَ جي.في ويدمان «ما وراء الخير والشر» بالديناميت. إذاً، فإنَّ قدر كلّ من يكون على بصيرة بالواقع أن يعاني التغرّب والملاحقة.

ما يميّز المفكّر هو إستباقه في توقّع الحدث وقراءته لبوادر الأزمات. ألم يقلْ جان كوكتو بأنَّ مشكلة طه حسين أنّه يرى أبعد مما تستطيع مصر تحمّله، حسبما يذكر ذلك هاشم صالح في « لماذا يشتعل العالم العربي؟».

 

المحنة

 

محنة المفكّر تتضاعفُ عندما يكتشفُ حقيقة وحدته في الصراع مع تيارات ضاربة بجذورها في الوهم والجهل، والفكر لا ينمو في محيط من الجهل واللافكر حسب تعبير «أدونيس». وعن دور البيئة أو المحيط يقدّمُ هشام شرابي من واقع تجربته رأيه، موضحاً السبب وراء ندرة المفكّرين المؤثّرين في مجتمعاتنا. فبنظره، موهبة الإبداع لا تُستورد ولا تُدرّس في الخارج، إنما الموهبة الخلّاقة تكمنُ في أعماق الفرد، إذا صادفت بيئة ملائمة تزدهر وإلّا تتلاشى. إذاً، فإنَّ حركة الفكر ستكون في درجة الصفر داخل مناخِ مشحون بخطاب الكراهية لإنطلاقات جديدة ومساعٍ رامية لإحداث القطيعة مع الأنموذج السائد.

 

وعندما يغيبُ الفكرُ يحلُّ مكانهُ الوهمُ الذي يؤسّس لتزييف المفاهيم الإنسانية. ولكن في مثل هذه الأجواء الضاجة بالعبث، ثمّة من يتجرأُ على الإنشقاق ولا يخسر خصوصيتهُ رافضاً الإندماج في الصف، مثلما أعلن ذلك الشاعر والمفكر السوري أدونيس. فهو قرّر منذ البداية بأن يكونَ مارقاً بطريقته، لأنَّ التكرار يفرغُ الفكرَ من حيويته. وهذا ما يعطي القيمة لآراء صاحب «المحيط الأسود»، كونه مفكّراً يؤمنُ بأنَّ ما يقتلُ ليس اليقين إنما الشكّ، الأمر الذي يجمعه بنيتشه على بساط واحد.

 

ولا ينفصل الفكر عن الشعر لدى أدونيس، بل كل شاعر كبير بمعنى ما كان مفكّراً، هذا ما يقولهُ في سياق حوار أداره الكاتب والصحافي صقر أبو فخر ونُشر في كتاب يحمل عنوان «أدونيس الطفولة، الشعر، المنفى».

 

وتكمنُ أهمية الأفكار الواردة ضمن هذا الحوار في القدرة على تشخيص المرض الحضاري وتناول مظاهر التخلّف على الأصعدة السياسية والفكرية والدينية، ويأتي كل ذلك بموازاة الحديث عن تجربة الشاعر مع الأمكنة والمدن، بدءاً من قصابين مروراً بدمشق وبيروت وصولاً إلى باريس.

 

حنين

 

قد يتفاجأُ المرءُ بعد مضي العمر بأنَّه لم يعش حياته حسب مقتضيات المرحلة، وأنَّ الرحلة ينقصها كثير مما أراد تحقيقه، والأيام قد هربت قبل أن يجدَ لها شكلاً. يعترفُ أدونيس بأنَّه لم يحظ بنعيم الطفولة، وأمضى أيامه في الحقل يعملُ. لذلك، لم يشعرُ بطفولته مثلما يشعرُ بها غيرهُ، لكن يريد إستعادة الطفولة المفقودة في الشيخوخة «لتكنْ هذه الشيخوخة الطفولة التي فقدتها». ويفسّرُ الحنين إلى الطفولة بإعتباره كفاحاً ضد الموت الذي يشتركُ فيه الجميعُ، فيما الطفولة مسألة شخصية بحتة. ولا ينصرفُ الحوار إلى مراحل لاحقة من حياة الشاعر، دون الإلتفات إلى علاقة أدونيس بالطبيعة وتعرّضه للموت وهو في طريق المدرسة، وما يعنيه القمباز والشجر وشتول التبغ بالنسبة إليه.

 

ولا يتذكر تلك العناصر المكوّنة إلّا في إطار رمزيتها الشعبية. وكان حضوره بالقمباز، في أحد أشهر المدارس الأجنبية آنذاك، عاملاً لإدراك هويته، وخصوصيته. وبناءً على هذا الموقف، أصبح مقتنعاً بأنَّ أفق المعرفة ليس مسدوداً دونه. والأهم في ما يذكره عن بداياته، هو تفهمه لوضعه الإقتصادي، وهذا ما يفتحُ له مجالاً للتفكير في مصيره وتغيير حظه بعيداً من التعقيدات. كأنَّ بالشاعر يطبّقُ مبدأ نيتشه «اقتنع بقدرك».

 

إذاً، كان منذ طفولته مسكوناً بهاجس تغيّر المصير. يؤكّدُ أدونيس بأنَّ الجانب التقني في الحداثة لا يغرَّه، وفي ذلك أقرب إلى الفيلسوف الألماني هايديغر. أما عن المدينة العربية، فيراها أدونيس في شكل ركام، ولم تتأسس في هذه الكيانات المكانية علاقات مدنية. مع أنَّ الشاعر مغرم باللغة الأم، لكن أراد معرفة الآخر من خلال لغة جديدة، وبعدما يتعلّم اللغة الفرنسية، وخلال سنتين بدأ بقراءة بودلير، بول فاليري، ونوفاليس، ويستمرُ في القراءة وهو يمضي فترة الخدمة العسكرية بعد خروجه من السجن. هذه المرحلة التي تدوم سنتين تعادلُ دهراً في الكثافة وغنى التجربة، ومن ثمَّ يغادر بلده هارباً من القيود المثقلة للروح والفكر.

 

إنزياح

 

«العبث بالمكان هو العبث بالإنسان». تستشفُ من هذه الجملة رؤية الشاعر لمفهوم المكان ودوره في بنية الفكر والتأسيس لمشاريع جديدة. وإذا كانت دمشق هي مدينة النهايات لدى أدونيس، فإنَّه رأى في بيروت مدينة مختلفة ليست لها هوية مسبقة، ما يعني وجود إمكانيات لمزيد من الإبداع والتحرّر والتعددية. لافي عام 1956 ينتقلُ أدونيس إلى بيروت، مدينة البدايات، حيثُ يمكنك بناء هويتك من جديد. غير أنَّه يبدي مخاوفه من تحول هذا المكان إلى نسخة أخرى من المدن المحكومة بأفكار أحادية، فبالتالي يغيبُ فيها التنوّعُ.

 

أصدر أدونيس بمشاركة يوسف الخال مجلة «الشعر»، التي نشرَ فيها روادُ قصيدة النثر، محمد الماغوط وأنسي الحاج. وانفتح هذا المنبرُ على أصوات شعرية ونقاشات، بشأن مفاهيم أدبية، بمنأى عن التشنّجات الآيديولوجية. إذ نجحَ مؤسسو المجلة في التمييز بين العروبة السياسية والعروبة الثقافية، وهذا كان ضرورياً في حقبة احتدام الآيديولوجيات.عليه، فإنَّ مجلة «الشعر» كانت ثورة على محدودية شكل الكتابة الشعرية. يتوقفُ أدونيس في مفصل آخر من الحوار عند إنتقالاته من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر. وكان ينشر قصائد النثر في صحيفة «البناء» السورية تحت عنوان «الدرب» ويوقّعها بإسم «سائر».

 

ويحدّدُ الشاعر المؤثرات الأولى على شخصيته وتكوين ذائقته الإبداعية. إذ إلى جانب الشعر الكلاسيكي العربي يكون للنص الصوفي تأثير عميق على فكره، ويكتشفُ في مكتبة الجامعة الأميركية «النفري» يأخذ كتابه، ويعتبر بأنَّ ما كتبه النفري طرازاً أول لقصيدة النثر. وعن شخصية ابن عربي يقول، «لو وجد الأخير في الغرب لكان بمرتبة هيغل». كما يضعُ كتاب أنطون سعادة «الصراع الفكري في الأدب السوري» ضمن روافد فكرية مؤثرة. فبعد قراءته للكاتب، لم يعد الشعر بنظر أدونيس تعبيراً عن العواطف والإنفعالات فقط، إنما هو رؤية متكاملة للإنسان والأشياء.

 

هكذا تدور مروحة الحديث عن العائلة والحب والإرتحال والصداقة والولادات المتعددة في قصابين ودمشق وبيروت. ومغامرة الإرتياد نحو التحديث في مفهوم الشعر، وإمتتاح من إرث الأصالة والثقافة المعاصرة إلى أن تفيض بهما بلونه الخاص.فهو يجمعُ في شخصيته سخط نيتشه وحكمة الصوفي.

 

نقد السلطة

 

الحداثة هي مشروع نقدي يهدفُ إلى مراجعة الثوابت والمسلمات، ويعتقدُ أدونيس بأنَّ أساس أزمتنا المركّبة هو وجود الحداثة المبتسرة، إذ أخذنا منجزات العقل الغربي ورفضنا مبادئه. ويصفُ صاحب «الثابت والمتحول» هذه الحالة بأنّها لعبة إستهلاكية. ولا يمكن الخروج من عنق الزجاجة ما لمْ تدشنْ حداثة ثانية، ينطلقُ فيها العقل نحو إبتكار صيغ جديدة للتعبير عن المشكلات الراهنة.

 

ويقارنُ أدونيس بين الغرب والمجتمعات الغربية لإضاءة المسافة التي تفصّلنا عنهم. فوجودنا حسب رأي أدونيس تمّ إختزاله في اللغة والكلام. ويشخّصُ حالة الإستعصاء التاريخي، بناءً على تغوّل السلطة، بحيث صارت مجتمعاً منفصلاً داخل المجتمع العريض، ولا وجود للشعب إلّا بوصفه رعية ليس له دور في صناعة القرار.

 

ويتساءلُ الشاعرُ، هل يتحققُ مشروع الحداثة في ظلّ سلطةٍ تخاف من الفكر بقدر ما تخاف من الموت. زدْ على ما سبق، فإنَّ التخويف بالتغرّب ليس سوى غطاء للأزمات المتراكمة. وينفي في سياق الحوار أي دور للمثقّف، كونه ناقلاً للأفكار فقط، فهو يقول: «أنا أدعو كل شخص إلى محاربة كل سلطة حتى لو كانت سلطتي».

 

يرفض الشاعرُ أن يكون مصنّفاً في أي خانة، لأنَّ الإنسان هو بما يقوله وليس بإنتمائه إلى هذه الجماعة أو تلك القبيلة. وعن المشاريع الفكرية الموجودة يرى في ما قام به أركون، محاولة جريئة، وأما الجابري فهو قد سبقه في الثابت والمتحول، في تفكيك الخطابات. قصارى القول، تأتي أهمية هذا الحوار في جرأة أدونيس على تشخيص أعراض الأزمة. كما أنَّ حسن إدارة صقر أبو فخر، زاد من الحديث تشويقاً، هذا ناهيك عن القيمة التاريخية والتوثيقية لهذا النص الحواري.

theme::common.loader_icon