ولكن... بعد سنة، بدّل الجنرال غوورو موقفه وحاول تعديل حدود الوطن الجديد بناء على تصور مساعده روبير دو كيه Robert de Caix . لكن البطريرك الحويك اصرّ على الحدود المرسومة، وواجه الجنرال بموقف صارم، فاجأ المندوب السامي الفرنسي واغضبه كثيراً، «طرابلس وبيروت Villes Libres».
كان روبير دو كيه احد أبرز الديبلوماسيين الفرنسيين في مطلع القرن العشرين. فاوض الامير فيصل عام 1919 حول «المملكة العربية المتحدة» ، ثم عيّنته الحكومة الفرنسية معاوناً اول للجنرال غوورو في لبنان. وهو صاحب نظرية تقسيم سوريا الى ست دول، تقوم بينها «فديراسيون».
عارض دو كيه، بشدّة، ضمّ مدينتي بيروت وطرابلس الى «لبنان الكبير»، لأن «من شان هاتين المدينتين، اذا ضُمّتا، ان تقلبا المعادلة في لبنان لصالح المسلمين السنّة. «كما جاء في مذكرة رفعها الى وزارة الخارجية عام 1920». وعندما رفض الجنرال غوورو هذه النظرية، اقنع دو كيه رئيس الوزراء الفرنسي مليران، بضرورة سلخ مدينتي بيروت وطرابلس عن «لبنان الكبير» واعلانهما «مدينة حرّة» Ville libre، والمحافظة على اكثرية مسيحية في دولة لبنان، لأنّ في ذلك «مصلحة فرنسية عليا «. فاقتنع غوورو بمشروع «الفديراسيون». وكاد المشروع ان يتحقق لولا معارضة البطريرك الحويك.
مواجهة في الديمان
يروي المفكّر اللبناني يوسف السودا في كتابه «في سبيل الاستقلال»، انّه زار الجنرال غوورو في عاليه في 8 آب 1921، ونقل اليه هواجس اللبنانيين حول إعادة ضمّ لبنان الى سوريا وموضوع «الفديراسيون» ؟ فأجابه الجنرال غوورو:
«لا اخفي عليك اني رأيت، بعد الاختبار، ومنذ اعلان لبنان الكبير في ايلول الماضي، انّ هناك مسائل تستدعي اعادة النظر. وبنتيجة البحث والمشاورات، رأيت انّه يمكن اللجوء الى شكل فديراسيون بين سوريا ولبنان. وقد وضعت مشروعاً لـ «الفديراسيون»... هناك بعض الشخصيات اللبنانية تؤيّد هذا المشروع».
اقلق تصريح غوورو يوسف السودا، فتباحث الامر «الخطير» مع عدد من الشخصيات اللبنانية، على رأسهم داود عمون، اول رئيس لمجلس النواب في لبنان، والمطارنة عبدالله الخوري، غناطيوس مبارك، واوغسطين البستاني، واتفقوا ان يذهب السودا الى الديمان ويبحث الموضوع مع البطريرك الحويك.
في 23 ايلول 1921 توجّه السودا الى الديمان، واطلع البطريك على المخطط الفرنسي (السرّي)، فاستبقاه غبطته على العشاء، بعد ان اخبره انّ الجنرال غوورو قادم لزيارته تلك الليلة.
في نهاية العشاء القى البطريرك خطاباً نارياً قال فيه: «اذا مُسّت حفنة من تراب لبنان فأنا خلال اربع وعشرين ساعة سأعلنها ثورة في البلاد...». «اغضب هذا الكلام العالي النبرة الجنرال كثيراً». يقول السودا. وكأنّ تياراً كهربائياً مسّ الجنرال عند سماعه هذه الجملة، فانتصب منتفضاً، وزعق والزبد يرغو من فمه قائلاً:
«مفاجأة، مفاجأة... يا مونسنيور، اتهدّدني بالثورة؟ وفي البيت الذي نعتبره بيت فرنسا في لبنان. انا الذي اعلنت لبنان الكبير. انا الذي امّنت لكم الاستقلال والحدود الطبيعية من الناقورة الى النهر الكبير... وتهدّدني بالثورة؟».
ويكمل يوسف السودا روايته فيكتب: «ثم سكن روعه قليلاً فقال: «ولكن يعزّيني انّ هذه الافكار ليست افكاركم، بل افكار مسيو سودا الجالس بقربكم. لقد حدّثت مسيو سودا عن مشروع «الفديراسيون»، لكني قلت له انّ المشروع لن يُنفّذ الّا اذا وافق اللبنانيون. ولغبطتكم الرأي الاول. وما دام اللبنانيون غير موافقين فلا تنشأ فديراسيون».
الصراع المرير على لبنان كبير؟
نستعيد هذه الوقائع اليوم لدلالتها التاريخية الهامة، ولانّها تعكس صورة حقيقية عن الصراع المرير الذي واجهته دولة «لبنان الكبير» منذ ولادتها من رحم معاهدة سايكس - بيكو. فالذين رفضوا «لبنان الكبير» كانوا اكثر من الذين هلّلوا لولادته. رفضه معظم المسلمين في لبنان... قبل ان يتكوّن.
في 4 تشرين الاول 1918، بعد يوم واحد على دخول فيصل الى دمشق، رفع العروبيون في بيروت راية الثورة العربية فوق السرايا الحكومية في بعبدا، وطالبوا بالانضمام الى «المملكة العربية المتحدة» بقيادة الشريف حسين. وعندما نُصِّب الامير فيصل ملكاً على «سورية العربية»، سارع اهل السنّة الى دمشق لمبايعة المملكة الجديدة، التي لم تعمّر سوى خمسة اشهر، فسقطت في معركة ميسلون.
بعد اعلان «لبنان الكبير» وقعت اضطرابات في مناطق كثيرة، رفض اهلها الانضمام الى الدولة الجديدة، وطالبوا بالوحدة مع سوريا. وسقط عدد كبير من القتلى في القرى المسيحية في الجنوب، ابرزها مجزرة في عين ابل. وتعرّض الجنرال غوورو لمحاولة اغتيال نجا منها بإعجوبة. وواجهته تظاهرات صاخبة يوم زار مرفأ طرابلس... وقمع الفرنسيون الاضطرابات بالقوة.
ماذا تبدّل خلال مئة عام؟
يعيش «لبنان الكبير» اليوم ازمة وجود. بات كهلاً هرماً متعباً على فراش النزاع. وها هي «امه الحنون» تدعو اهله الى «عقد اجتماعي جديد» لإنقاذه؟
هل العقد الجديد يكون بتصغير «لبنان الكبير» من خلال العودة الى مشروع روبير دو كيه بحلّة عصرية؟
هل يكون الخلاص بالتوافق حول تقسيمات ادارية جديدة من خلال اللامركزية الادارية التي اقرّها دستور الطائف، ومن ثم تجميع هذه «التقسيمات» داخل «فديراسيون» يحفظ الوجود المسيحي المهدّد بالاندثار برعاية «الام الحنون»؟
وهل يقبل الاب الاميركي العطوف؟ وترضى «الجارة» الغيورة؟ ويوافق العرّاب الاقليمي القوي؟ وتبارك ممالك الخير؟ ويتراجع العثماني الطموح؟ ويرضخ الدب الجامح.. لنسلك درب العقد الجديد بسلام؟
عندما وُلد «لبنان الكبير» كان هناك لاعبان فقط في المنطقة: بريطانيا وفرنسا. ولم تكن دولة (السرطان) اسرائيل قد وُلدت بعد؟
كم من متصارع اقليمي ودولي على ارض لبنان اليوم؟ وكم من حرب داخلية خاضتها الطوائف المتعيشة (بالاكراه) زعزعت كيان الوطن؟
العقد الاجتماعي الجديد اكثر من ضرورة... قبل الانفجار الكبير!