الإبداع في مكان آخر
الإبداع في مكان آخر
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Thursday, 04-Jun-2020 06:23
«هل تندثر الثقافة في زمن العالم الإفتراضي؟»، وما هو مستقبل الثقافة في ظلّ تصاعد الإهتمام بوسائل التواصل الإجتماعي، وإرتفاع عدد من يرتادون المواقع والمنصّات الالكترونية، بحيثُ يفوقُ دور هذه الوسائط على الإعلام التقليدي؟ بل أصبحت مصدراً رئيساً للأخبار، ويتابعُ الجمهورُ من خلالها منشورات السياسيين والنجوم والأدباء، كما قد تتحولُ إلى حلبة للمناوشات الكلامية بين المُتخاصمين سياسياً أو فكرياً أو عقائدياً.

ما يصطلحُ عليه بالعالم البديل كان يثيرُ الشكوكَ والريبة لدى المهتمين بالمجال الثقافي. وبرأي هؤلاء، فإنَّ البيئات الإفتراضية تقوّض دعائم الفكر وتندثر الثقافة في أثيرها. وأنَّ ما يكونُ بديلاً عبارةً عن ظاهرة التزحلق الفيسبوكي والسطحية، ومن الطبيعي أنْ تتّخذَ المخاوف منحى أكثر حدةً من الشبكة العنكبوتية في المجتمعات التي يتأرجحُ أفرادها بين الإستجابة لمتطلبّات التحديث والتمسّك بالإصالة، ناهيك عن تفاقم ظاهرة الرهاب لدى هذه الفئة من خسارة رأس المال الفكري، الأمر الذي شغلَ النخبة المثقّفة في بعض المجتمعات الغربية أيضاً، لا سيما بعد إنحسار مفهوم الخصوصية المحلية والإنفتاح على العالمية، إذ غدا الفردُ متحرّراً ولو نسبيّاً من إكراهات بيئته المحليّة، وحقّق مزيداً من الإستقلال بما وفّره له العالم الإفتراضي من فرصة التواصل ومخاطبة الآخر المختلف، والمقارنة بين الوضعيات المتباينة على الصعيد الحياتي والأنظمة السياسية. غير أنَّ المنضوين ضمن التيار المحافظ يرون في ذلك تهديداً على بنية المجتمع وإنشطاراً للهوية، وينضمُّ سدنة الثقافة الأحادية إلى الجبهة المناهضة لمعطيات العالم الإفتراضي، لكن من المناسب هنا والعالمُ يمرُ بأزمة غير مسبوقة، إذ انسحب الجميع إلى المنازل وعبارة «إبق في بيتك» صارت شعاراً عالمياً.

 

هل يجوز طرح سؤالٍ عن وضع المجتمعات في ظلّ الحَجر الصحي والتباعد الإجتماعي وتعطيل النشاطات الثقافية والرياضية، إضافة إلى وقف الدراسة وإغلاق دور العبادة والأماكن العامة دون وجود العالم البديل؟

 

ربما هناك من يقولُ بأنَّ الإنسان كائنُ يتأقلمُ مع شتّى الظروف، وبالتالي يتحمّلُ العزلة الكونية والمقاطعة ويتعايشُ مع الوضع القائم، وطبعاً قد لا يجانبُ هذا الرأي الصواب كله. بيد أنَّ الخسائر كانت تتضاعفُ على الأصعدة كافةً، وتراخى المواطنون في التقيّد بالإرشادات الصحية في حالة غياب ما يعوّضُ بعض نشاطاتهم في الواقع الفعلي.إذ أطلقت بعض مراكز الأكاديمية والجامعات خدمة التعليم الالكتروني. كما أنَّ الوسائط الالكترونية لعبت دوراً في التوعية صحية.

 

أفق التطور

 

صحيح قد يتفاوت مستوى المجتمعات في مواجهة هذا الواقع وإستيعاب التحدّيات، لكن المشاريع الثقافية والفكرية والمبادرات التي دشّنها الناشطون من على صفحاتهم، تؤكّدُ بأنَّ منفعة الوسائل الجديدة مرتبطة بأفق التطوّر العقلي وطريقة إستخدامها. وبينما تمّ إلغاء معارض الكتب والندوات الثقافية، بعدما داهمَ فيروس كورونا المجتمعات برمتها، بدأ مستخدمو وسائل التواصل الإجتماعي بإطلاق مبادرات متنوعة. واللافت في هذا السياق، هو دعوة الأصدقاء لبعضهم لنشر غلاف الكتب التي كان لها تأثير على تكوينهم الثقافي، هذا إضافة إلى ترشيح الأفلام وتقديم محتوى الأعمال السينمائية بما يمكنُ المتابعَ من معرفة الفكرة والموضوع. وأكثر من ذلك، فإنَّ عدداً من المتاحف العالمية وفّرت خدمة التجول في صالاتها إفتراضياً، وبذلك تحققت الفرصة لمحبي الفنون والآثار لمشاهدة الأعمال والمنحوتات القيّمة، وإنفتحت صفحات مواقع التواصل الإجتماعي على حفلات غنائية مباشرة، كما إنتشرت على نطاق واسع أغنيات كورونية مداعبة.

 

والحال هذه، فإنَّ المعلومات تتوالى باستمرار بشأن آراء الفلاسفة، وما يرشحُ من المختبرات العلمية حول الوباء. ولم يتوقف الحديث عند هذا الحد إنما بدأ السؤال يدور عن شكل الحياة في مرحلة ما بعد كورونا. وبالطبع فإنَّ الفضاء الإفتراضي يحتوي على الوفرة المعلوماتية وتصخبُ على مساحته المتمددة النقاشاتُ، بحيثُ يكون صورة لديموقراطية تفاعلية. ولاوجودَ لآراء محصّنة من النقد في تلك المنصّات المشرّعة على كل الإتجاهات.

 

الإختراق

 

إذا كان العالم قد تحوّل إلى غرفة بملايين الجدران بفعل سرعة تفشّي الوباء وعبوره للمحيطات والأسوار، فإنَّ المشاريع الثقافية والفنية التي أُطلقت على صفحات التواصل الإجتماعي قد اخترقت جدار العزلة وعوّضت النشاطات المؤجّلة في واقعنا الفعلي، ولعلَّ من أبرزِ ما حظي بالمشاهدة في هذا الإطار هو برنامج المكتبة الذي أطلقه الكاتب التونسي كمال الرياحي، إذ شارك عدد من الأدباء في حلقاته. ويهدفُ هذا المشروع إلى إشراك المبدع إهتماماته في القراءة مع المتابعين، إذ غالباً ما تكونُ المشاركة بقراءة نصٍ أو مراجعة عمل أدبي. ويحاولُ الرياحي توسيع حلقة المشاركة، ولا تنحصرُ بمحددات جغرافية وإنتماءات فرعية. ومن جانبها، دشنت «دار الرافدين» مشروعاً ثقافياً من خلال حسابها على مواقع التواصل الإجتماعي، وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات مع المفكرين والأدباء والمترجمين، بدأت بعنوان «موسم الرافدين الثقافي»، وتستمرُ لمدة شهر. وصرّح الصحافي حسن أكرم، وهو من القائمين على المشروع، بأنَّ تفاعل الجمهور مع مبادرة الرافدين مشجع. إذ طلبَ المتابعون تمديد وقت بعض الحلقات الحوارية. وقد يكون نجاح هذه النشاطات الثقافية عاملاً لإنشاء مزيد من الصفحات بمحتويات معرفية وثقافية زاخرة.

 

إذاً، فإنَّ تجربة العالم مع فيروس كورونا قد حدا بنا للتعامل مع وسائل التواصل الإجتماعي بوصفها إمكانيةً متاحة لتأسيس المشاريع وإطلاق المبادرات. وقبل إختراع الطباعة كانت الكتب من مقتنيات الطبقة الأرستقراطية، تزيّنُ بيوتهم، لكن مع ظهور الآلة الجديدة توفرت فرصة القراءة وإقتناء لعدد أكبر من الأشخاص من خلفيات إجتماعية متعددة، وبذلك نهض الفكر ودخلت البشرية إلى مرحلة جديدة.

 

والحال لا تختلف بالنسبة لدور وسائل التواصل الإجتماعي. فمع إنتشارها أصبحت المعلومة أكثر ديموقراطية، ولم تعد النقاشات الفكرية والمعرفية إمتيازاً نخبوياً، وحتى الجوائز التي ترصد للأعمال الأدبية، لا بدَّ أن تخرجَ من دوائر نخبوية ضيّقة إذا أريد لها الإحتفاظ بقيمتها المعنوية.

 

فربما يُفهمُ من إقامة حفل منح جائزة «بوكر» بنسختها العربية لهذه السنة عن طريق أونلاين، بإعتبارها بدايةً إنفتاح كل الفعاليات النخبوية على العالم الإفتراضي.

theme::common.loader_icon