الرواية.. بين رونق الكتابة وفنّ التمرّد
الرواية.. بين رونق الكتابة وفنّ التمرّد
كه يلان محمد
Wednesday, 03-Jun-2020 06:34

لا تنفصل العملية الإبداعية عن نزعة التمرّد. ويضيفُ الإبداع بأشكاله المتنوّعة أبعاداً جديدة إلى الحياة، بحيث لا يكون المرءُ مقيّداً بما يعيشهُ ويشاهده، إنما يتمكّن من تحويل ما إختبره إلى مادة في تشكيل ما يوازي التجربة الحياتية، وهذا يعني أنَّ الإبداع محاولة لإمتداد خارج محدودية الزمن، وإيجاد المعنى في المسافة الفاصلة بين مجهولين. فإذا كان الموتُ إستحالة لإمكانية أخرى على حدّ قول «هايديغر»، فإنَّ الإبداع يوفّر فرصة لمضاعفة الإدراك والإفتراض، ضمن إمكانية الحياة، ولو ظلّت محدودة بعوامل بيولوجية. عليه، فإنَّ ما يتحرّك في اللاوعي لا يمكنُ التعبير عنه أو نقله سوى من خلال الفنون الإبداعية.

هنا يعطي شوبنهاور الأفضلية للموسيقى التي تتفوّقُ على اللغة من حيث القدرة على الإنطلاق بالمخيلة نحو مدى أوسع. أما عن علاقة الإبداع بالتمرّد عموماً وكيف يتمظهر فعل التمرّد في الفن الروائي بالتحديد؟ طبعاً تتمُ مساءلة الواقع وإستشراف المستقبل من خلال هذا الفن. أكثر من ذلك، فإنَّ ما تتيحهُ الرواية من مجال المناورة في توظيف الأساطير والتاريخ والرموز يكونُ أداةً لمناوشة المتواضع عليه إجتماعياً وسياسياً ودينياً. فبالتالي، يتأسسُ وعي مفارقُ لما هو سائد، كما ينزعُ النص الروائي إلى تفكيك الظواهر المهينة، ويتبدّى هذا الملمح في الروايات التي تعتمدُ على بنية سجالية، إذ يكون القارئ أمام نقاشٍ بشأنِ محدّدات الوعي الجمعي وتقانة السيطرة على المخيال، بوصفه حالة رغبة جامحة لا تعرف موضوعها انّها تريد كل شيء في الحال وبشكل مباشر، لا يقبل تأجيل كما يقول «سعيد بنكراد». من هنا نفهمُ لماذا تُعدُ الروايةُ مثيرةً للريبة أكثر من أي جنس أدبي آخر. إذ تتراخى في فضائها ما يسميّه سعد محمد رحيم، بأنطقة المحرم. والحال هذه، فقد أصبحت الروايةُ منصةً للتيارات الفلسفية وإرهاصاً بنشوء المشاريع الفكرية، الأمر الذي قد تراه بوضوح في المذاهب العبثية.

 

بوادر

تسبقُ ظهور أي مذهب فلسفي جديد مؤشرات عدة تنبئ بتحولات على مستوى الواقع والفكر. وهذا الموقفُ ينسحبُ على ما يشهدهُ الأدب أيضاً من التطور على صعيد التعامل مع معطيات حياتية. فمن المعلوم أنَّ التيار الوجودي كان إحتجاجاً على ضمور القيم الإنسانية والشعور بالإحباط من الإلتفاف على مبدأ الحرية. إذ يربطُ سارتر بين المسؤولية ومفهوم الحرية. ولولا ذلك الترابط بين حالتين، لاستحال تحمّل الكائن البشري لمسؤولية أفعاله. فهذا هو أساس المذهب الوجودي كما يمثلهُ سارتر. فالإنسان بالنسبة لصاحب «أبواب مقفلة» لا شيء سوى العمل. وما يفرّق بين التشاؤم لدى شخصيات سارتر الروائية والشخصيات المتحرّكة في روايات إميل زولا على سبيل المثال، أنَّ الأخير يفسّر أسباب الخمول والضعف وفقاً للعوامل البيولوجية. وهذا ما يرتاحُ إليه القارئ، بينما لا يكونُ الخمولُ والتشاؤم لدى سارتر سوى إختيار فردي، وهو يقول في «الوجودية منزع إنساني» إنّ مذهبه يسبّبُ والذعر لعدد من الناس، لأنّ هؤلاء الأشخاص ليس لديهم إلّا طريقة واحدة لتحمّل بؤسهم، وهي أنّ الظروف كانت ضدّهم وما أنصفت جدارتهم.

 

وإذا تحولنا إلى متابعة الشخصية الرئيسة في رواية «الغثيان»، وهي باكورة الأعمال الروائية لسارتر، لا يشقُ عليك تفهّم ما يرمي إليه المؤلف من التعبير عن موقف فلسفي من خلال أقوال وتصرفات «روكنتان». إذاً، تستشفُ من محتويات الرواية بوادر مشروع سارتر الفلسفية. هذا ناهيك عن تحرّك ظلال بعض الاتجاهات الفلسفية السائدة آنذاك على سلوكيات «روكنتان»، الذي يتكفل بسرد الرواية وتسجيل إنطباعاته حول وقائع أيامه، ومما يردُ على لسان البطل الذي يفصح عن هموم وجودية، فهو يقولُ: «كم أودُ لو أتبصر في ذاتي بالوضوح قبل أن يفوت الأوان». فتلمسُ شكاً ديكارتياً، إضافة إلى رنين آرائها بشأنِ نسيان الكينونة والوجود. ومن ثمَّ يتمّ التأكيد على دور العمل في تشكيل هوية الذات، يخاطبُ العصامي صديقه، لافتاً نظره إلى ما تحمله الأفعال من الأهمية «إنّ في أتفه أفعالك قدراً هائلاً من البطولة». أكثر من ذلك، فإنَّ المسؤولية الأصعب تكمنُ في أن يكون المرءُ إنساناً بنظر سارتر. طبعاً يوافقهُ غريمه كامو في هذا الرأي. ولا تغيبُ فكرة الإنتحار بوصفها خياراً قائماً لدى شخصيات سارتر. غير أنّ ما يمسكُ العصامي من المضي نحو الإنتحار، هو التفكير بأنَّ لا أحد يتأثر بموته، بل يكونُ في موته أشد وحدةً مما كان عليه بالحياة.

 

إذاً، فأنّ الإرتماء إلى العمل هو ما يعطي للحياة قيمةً برأي سارتر. أما عن علاقة الإنسان بما يقعُ عليه نظرهُ من الأشياء، فلا وجودَ لشيء خارج المظاهر وما يجدرُ بالذكر هنا أنَّ جان بول سارتر يشيرُ إلى صراع الإنسان مع الزمن في سياق روايته، ويوحي ما يقوله بهذا الشأن، أنَّ الزمن لا يمتلئ وكل ما يُغمّسُ فيه يميعُ ويتمطّى حسب تعبير روكنتان.

 

ضد الزيف

تنزلُ رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأميركي ج.د.سالنجر ضمن الأعمال الأدبية التي تعبّرُ عن السخط، بل هي بلاغ ضد الزيف. كما أنَّ روكنتان ما إنفك يشعر بالغثيان، كذلك حال هوفمان في رواية سالنجر، حيثُ يثورُ على زيف عالمه ويهربُ من المدرسة رافضاً نفاق القائمين عليها. كما لا يقبلُ التدجين في النظام الأسري، ويفكرُ في حياة جديدة مع سالي التي لا ترى في ما تسمعهُ منه سوى رومانسية المراهق. ومما يضاعفُ من غضب هوفمان، البالغ من العمر 16 عاماً، هو الإضطرار للنطق بما يخالفُ حقيقة المشاعر. وكان الإنتحار يراوده في لحظة ما. ألّا أنَّ ما منعه من الإقدام عليه هو عدم التأكّد من وجود شخصٍ يغطي جثته. وهو لا يريدُ ان يكون مكشوفاً أمام الأنظار.

 

يتقاطعُ روكنتان مع هوفمان في الشعور بالسأم والتغرّب عن الواقع والإستخفاف بالمتواضع عليه إجتماعياً والتوتر في العلاقة مع المرأة. إذ يميلُ الإثنان إلى تخيّل المرأة التي تعيشُ حياتها الحميمية مع شخصٍ آخر.

 

يُشار إلى أنّ السردَّ في رواية سالنجر يتّصفُ بالعفوية. إذ يستجلي الكاتبُ ما يعترمُ في أعماق جيل جديد من الغضب والرغبة في الثورة على الزيف. يُذكر أنَّ هذه الرواية حسب ما يقوله الكاتب العراقي «علي حسين»، قد أثارت لغطاً كبيراً في الأوساط الأكاديمية في أميركا. واللافتُ في أجواء هذا العمل الروائي هو تحرّر معجمها اللغوي من غطاء الإستعارة والكناية.

theme::common.loader_icon