ليست صدفة أن تقفز إلى الواجهة أفكار وطروحات «حسّاسة» أو «خطرة» على النظام أو الكيان اللبناني، في اللحظة التي بدأت فيها المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي. فالجميع، بمن فيهم «حزب الله»، يعرفون أنّ هذه المفاوضات في الشكل تدور حول الأرقام والخطط المالية والاقتصادية، لكنها في العمق مفاوضات حول الخيارات السياسية الكبرى. وفي عبارة أخرى، إنّ لبناناً آخر على وشك الولادة في مخاض الشرق الأوسط.
توحي أوساط شيعية معارضة للثنائي الشيعي (امل وحزب الله) بأن القنبلة التي فجّرها المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان لا تعبّر عن موقفه وحده، بل هي موقف القيادة السياسية الشيعية بكامل مكوّناتها وتالياً، هي ليست مبادرة شخصية منه، وتوقيت تفجيرها كان مدروساً ومحدَّداً بِدقَّة ليصيب الهدف.
وعلى ما تقول هذه الاوساط، فإنّ القوى السياسية الشيعية فضّلت أن تتجنَّب التردُّدات التي سيخلِّفها الموقف على الحلفاء قبل الخصوم، وعلى العهد والحكومة اللذين تحرص عليهما، فكانت الفتوى بـ»تكليف» المفتي إطلاق الموقف شرعاً، ومن موقع المرجعية الدينية، وفحواه:
لبنان 1943 المسيحي- السنّي انتهى، أي لبنان بشارة الخوري ورياض الصلح. ولبنان 1989 انتهى، أي لبنان الطائف برؤساء جمهوريته ورفيق الحريري. وحتى لبنان الدوحة، بعد 7 أيار 2008، لا يلبّي طموحاتنا. ولبنان الذي سنسمح بقيامه هو الذي صنعناه وما زلنا، بقوتنا، والذي يتمدَّد فيه نفوذنا، في الأمن والسياسة والاقتصاد، عابراً الحدود حتى طهران. ولن تنهض مؤسسات النظام إلّا إذا حفظت لنا حصّتنا، في الإدارة والمال والاقتصاد والمرافق والموارد.
بالتأكيد، والكلام للاوساط المعارضة للثنائي الشيعي، الفكرة ليست جديدة. وفي العمق، نادى بها «حزب الله» دائماً: المؤتمر التأسيسي. وهي التي تقود نهج الثنائي الشيعي، على الأقل منذ أن غادرت القوات السورية لبنان في العام 2005. وفي سياقها، جاءت «الانتفاضات الشيعية» الأمنية والسياسية اللاحقة، والتي انتهت بالسيطرة على غالبية القرار في الدولة. وفي العام 2016، عندما تمكَّن «الحزب» من بناء التركيبة السلطوية التي تمتَّع فيها بمركز القوة، أي رئاسة العماد ميشال عون، ومعه وضَعَ «زعيم السنّة» ووريث أبيه، الرئيس سعد الحريري، العائد من المنفى، وأرجعه إلى السرايا تحت جناحه، كانت فكرة الدولة التي أرادها «الحزب» قد صارت في مراحل أكثر تقدّماً.
اليوم، وصل لبنان إلى عتبة الانهيار. وفيما يعتقد البعض أنّ «الحزب» سيحاذر دفعه أكثر إلى المنزلق لئلا تخرب التركيبة السلطوية التي تغطيه، فإنّ بعض المطلعين يرى عكس ذلك، ويقول: من مصلحة «الحزب» أن يسقط البلد بنظامه وكامل مؤسساته، لأنّه حينذاك سيتمكّن من السيطرة عليه ومساومة القوى الدولية على ذلك.
بل، في رأي بعضهم، إنّ «الحزب» لا يتمسّك بالتركيبة السلطوية الحالية وكأنّها مقدّسة. ففي لحظةٍ، تمَّ التخلّي عن الحريري والمجيء بحسان دياب إلى السرايا. ولا أحد يعرف متى يصبح «الحزب» مستعداً للتخلّي عن حليفه المسيحي، «التيار الوطني الحرّ»، أيضاً، إذا اقتضت مصلحته ذلك. فالمعيار هو البراغماتية، والأمور مرهونة بأوقاتها.
يعتقد «الحزب» أنّ الأشهر الـ6 المقبلة ستكون شديدة الحساسية في لبنان والشرق الأوسط عموماً، من بوابتين:
1- الضغوط الإسرائيلية لتمرير المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية مع العديد من الدول العربية، ضمن سياق «صفقة القرن».
2- وصول التجاذب بين الولايات المتحدة وإيران إلى مراحل حاسمة، مع اقتراب ولاية الرئيس دونالد ترامب من نهايتها.
وفي تقدير «الحزب» وإيران، المطلوب هو اعتماد ما سمّاه باراك أوباما ذات يوم «الصبر الاستراتيجي». فعلى الإيرانيين تمرير المرحلة حتى تشرين الثاني، موعد الانتخابات الأميركية. فإذا فاز ترامب بولاية ثانية، سيكونون مضطرين إلى إبرام الصفقة ولو خاسرة. وأما إذا فشل، فيمكن أن يكسبوا فرصة جديدة لخلط الأوراق في المنطقة.
المشكلة هي أنّ إدارة ترامب تستفيد من لعبة الوقت أيضاً، لتحقيق مكاسب سريعة. فهي تمارس ضغطاً لإجبار «الحزب» على التنازل في الفترة القاتلة، أي الـ6 أشهر الباقية. وهنا يبدو مأزق لبنان في المساعدات التي يطلبها من المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة، بدءاً من صندوق النقد. كما يبدو تصعيد العقوبات على «الحزب» وحلفائه، وربما لاحقاً على مؤسسات رسمية.
إذا مضى الأميركيون في ضغوطهم، فسيكون أمام «الحزب» إما أن يلتزم بشروطهم خطوة خطوة، وإما أن يقاومهم فيردّون بمزيد من الحصار على السلطة اللبنانية التي تغطي «الحزب». وفي الحالين، هو لن يكون في موقع مريح.
ووفق بعض المتابعين، قد يردّ «حزب الله» بانقلاب سياسي داخلي ويمسك باللعبة بشكل مطلق. وإذا لم يستطع فرض المؤتمر التأسيسي ليكون مرجعية شرعية لنفوذه في النظام الجديد، فقد يعبر نحو أهدافه من دون المرور بالمؤتمر، مستفيداً من كونه الأقوى، ومن كون الطائفة الشيعية هي الأكثر تماسكاً، فيما الطوائف الأخرى ضعيفة ومشرذمة.
وثمة محللون غربيون يعتقدون أنّ «الحزب» قد يستغلّ انشغال الولايات المتحدة نسبياً عن لبنان في هذه المرحلة، لأنّ أولويتها اليوم هي العراق، لا لبنان ولا سوريا. وفي هذا السياق، هي تولي الأهمية لاختيار مصطفى الكاظمي في رئاسة الحكومة، باعتباره شخصية تتمتع باستقلال عن النهج الإيراني.
بالنسبة إلى الأميركيين، حضورهم في العراق كلَّفهم حتى الآن مئات المليارات من الدولارات، وإقامة سدّ عراقي في وجه إيران أكثر فائدة لهم من وضع ثقلهم في سوريا ولبنان. فالعراق هو مدخل الجسر الإيراني نحو دمشق وبيروت، وانقطاعه هناك يعني إقفاله عند المصدر.
لذلك، يقول العالمون: هناك خيار واحد يمكن أن يسمح لـ»حزب الله» بممارسة هامش من النفوذ، أو حتى بتغيير النظام لمصلحته، وهو أن ينخرط في مناخ التسوية في الشرق الأوسط ومع الولايات المتحدة. ففي هذه الحال، سيتراجع عنه الضغط الخارجي ويستطيع أن يحافظ على أوراق داخلية كثيرة.
ولكن، هل هذا ممكن عملياً؟
ممكن، إذا دخل الإيرانيون والأميركيون في صفقة مفاجئة. وهذا احتمال وارد، وإن بدا غير ناضج حتى الآن.
ولكن، في الانتظار، واضح أنّ لبنان لن يعود كما كان. هو سيتغيّر، بالفدرالية أو بنقيضها. وربما تنقلب خيارات كل طرف في شكل مفاجئ. فما كان يرفضه البعض، في زمن معيّن، ربما يتحوَّل اليوم أو غداً مقاتلاً في سبيل تحقيقه.