تنفس اللبنانيون الصعداء بعد خطاب رئيس الحكومة حسان دياب الذي صرّح أنّ الخطة المتداولة في وسائل الإعلام ما هي سوى مسودة مطروحة للنقاش، وأن الحلول النهائية ستأخذ بعين الاعتبار مصلحةَ المودعين وأن جَنَى عُمر 98 بالمئة من هؤلاء لن يُمَسّ. وبناءً عليه، فإنّ كبش المحرقة، أي الذين يمثّلون 2 % من كبار المودعين، هم من يملكون أكثر من 500 ألف دولار أو 750 مليون ليرة. وسيدفع هؤلاء ثمن خسائر الدولة، وستصادر 54 % من ودائعهم إذا ما شملت الحلاقة (Haircut) ودائع الليرة أو 67 % إذا ما انحصرت بودائع الدولار. ولن تقتصر المصادرة على الفوائد التي تقاضاها هؤلاء، بل ستشمل أصل رأس المال. فمن هم المودعون الذين يشكلون كبش المحرقة؟ وما ارتدادات مصادرة أموالهم على لبنان؟
إنّ هؤلاء هم في الحقيقة أصحاب المؤسسات الإنتاجية من معامل ومصانع وأسواق تجارية ومستشفيات وفنادق ومطاعم ومجمّعات سياحية وجامعات ومقاولين ومهندسين ناجحين وأطباء مهرة ومحامين بارعين ومبادرين أكفّاء، تَحدّوا صعاب الحياة وبرعوا على الرغم من العوائق التي وضعتها أمامهم دولتهم؛ فمنهم من تشرّد وذاق الأمرّين في الغربة ومنهم من كَدح في لبنان، وقد تفوّقوا جميعاً ولبّوا حاجات مجتمعاتهم وتقاضوا أجر تعبهم ودفعوا ضرائبهم، ولم يبددوا مالهم وحافظوا على «قرشهم الأبيض ليومهم الأسود»، وحلموا بتأمين حياة كريمة لأولادهم تكون أفضل من التي عاشوها. وهم يوظفون مئات آلاف اللبنانيين في القطاع الخاص ويدفعون لهم رواتب وأجوراً وضماناً وينفقون الأموال وينعشون البلد، وهم من يؤمّنون حاجات الأسواق المحلية من إنتاج واستيراد ويصدّرون للأسواق الخارجية ويُدخلون العملة الصعبة إلى لبنان، وهو ما حافظَ حتى الماضي القريب على استقرار صرف الليرة.
وقد تمكن هؤلاء من تكوين أرصدة مالية نتيجة عملهم وأودعوها في المصارف اللبنانية، ما سمح لمئات آلاف اللبنانيين بشراء مساكن وسيارات، إضافةً إلى الزواج وتأسيس أسَر بفضل القروض المتأتية من هذه الودائع. سمحت ودائعهم بإعطاء قروض لآلاف المؤسسات الزراعية والصناعية والتجارية والسياحية والمهن الحرة الصغيرة والكبيرة وتمويل اقتصاد المعرفة، كما استدانَت الدولة أموالهم لدفع سلسلة الرتب والرواتب وأجور القوى الأمنية وحاجات المدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية. وهي اليوم تستعمل ما تبقى من هذه الودائع لتمويل حاجات المواطنين الضرورية من دواء وغذاء ومحروقات، كما جاءت عظمة القطاع المصرفي اللبناني وأرباحه وفروعه وموجوداته الخارجية نتيجةً لاستثماره أموال كبار المودعين. وباختصار، فقد شكّل كبار المودعين، بشقّيهما المحلي والمغترب، الركن المتين الذي حمل لبنان وآمن به منذ العام 1992.
إلا أنه، ومنذ بداية الأزمة المالية، بدأ الترويج والتسويق لأفكار وآراء يشوبها التضليل وخلط الحقائق لتحميل كبار المودعين مسؤولية الأزمة المالية التي لا علاقة لهم بها. وتهدف هذه الحملة إلى تبرئة المسؤولين الحقيقيين عن الأزمة، وتحديداً الدولة اللبنانية التي استدانت أموال الناس وصرفتها والقطاع المصرفي الذي جَيّر لها الأموال. وعلى الرغم من تكشّف الحقيقة، فقد استمرت الحملة على المودعين لشيطنتهم تسهيلاً للاستيلاء على قسم من ودائعهم. فقد ذهب البعض إلى تصوير الاقتطاع من الودائع والانتقام من أصحابها واجباً وطنياً، محمّلين إيّاهم مسؤولية هدر المال العام ومتّهمين إيّاهم زوراً بالحصول على فوائد مرتفعة. فالنافذون الذين نهبوا المال العام هرّبوا أموالهم إلى الخارج على مرّ السنين، وكانت آخر عمليات التهريب هذه في الأشهر الأخيرة الماضية. فقد أعلنت دول أوروبية عن تحويلات بالمليارات لمدعومين استطاعوا تحرير أموالهم وإرسالها إلى الخارج، في حين كان كبار المودعين غير المدعومين عالقين في المصارف وما زالوا حتى اليوم.
أما في ما يتعلق بالفوائد، فقد تراوحت نسبتها في لبنان بين 3 إلى 7 % على الليرة و2 إلى 5 % على الدولار حتى نهاية العام 2017، وذلك على الرغم من تدنّي معدل النمو الاقتصادي إلى حوالى 2 % بعد العام 2011 وارتفاع حجم المخاطر على الدولة اللبنانية والقطاع المصرفي. وقد بدأت الفوائد بالارتفاع تدريجاً منذ العام 2018 حتى وصلت إلى 12 % على الليرة و9 % على الدولار في منتصف العام 2019. وقد ترافق ذلك مع ارتفاع الضريبة عليها إلى 11 %، بمعنى أنّ الفوائد الصافية بلغت 8 % على الدولار و10.5 % على الليرة. أما الفوائد الخيالية التي يجري الحديث عنها، أي 18 و20 %، فقد سُجِّلت بين المصارف ومصرف لبنان من خلال ما سمّي بالهندسات المالية ودُفِعت من أموال المودعين عبر خديعة مخطط بونزي Ponzi Scheme ولم تدفع لهم على عكس ما يُقال جزافاً.
ويُعتبَر الاقتطاع من الودائع بالطريقة المطروحة اليوم سطواً لا مثيل له حول العالم على مال الأوادم، وستكون له ارتدادات سلبية تُنهي النظام المصرفي اللبناني عن بكرة أبيه، خصوصاً أنه كان يعتمد على التحويلات الخارجية. فبعد مصادرة أموال المودعين، لن يحوّل عاقل دولاراً إلى لبنان؛ ولئِن فعل فلن يبقيه دقيقة في المصارف اللبنانية. وسيقضي ذلك على قدرة المصارف على إعطاء قروض تسمح للناس بشراء سيارات وشقق وتنمّي الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والمهن الحرة؛ كما ستفقد المصارف القدرة على تمويل عجز الدولة، ما سيؤدي بالحكومة إلى التخلف عن دفع مستحقاتها من رواتب ومعاشات تقاعد وتكاليف صيانة ومحروقات وغيرها من التكاليف. ومع تصفية رأس مال الأوادم، تتم تصفية قوى الإنتاج المحلي ويُقضى على ما تبقى من قدرة المصانع والمتاجر والمستشفيات والفنادق والمطاعم على الاستمرار في العمل.
ويملك كبار المودعين ثروات من الفكر والمعرفة والخبرة في البناء والنجاح والعمل الدؤوب مَكّنتهم في الماضي من تكوين ودائع مالية في المصارف تعكس قدرتهم الإنتاجية في لبنان والاغتراب. ولن يعودوا أبداً، بعد قطع دابرهم، إلى تسخير طاقاتهم في سبيل لبنان، لا هم ولا من يشبههم. وستختفي من دونهم الوظائف ويشحّ تمويل القطاع العام وتتحَجّم المصارف ويتوقف الإنتاج، ويدخل البلد نفقاً مظلماً لا نهاية له، ويتساوى الجميع في الفقر والجوع والحرمان.