
في الميتولوجيا اللبنانية قرى غاطسة واخرى صاعدة من البياض التاريخي صيفاً وشتاءً. وفي المقابل قرى تتشنشل تحت شرشف الربيع وزخات من الندى اللمّاع الذي يخبر بكل اسرار ومخبؤات الطبيعة اللبنانية.
وحصارات، القرية اللبنانية الجبيلية المنوّرة بعشرات من مثقفيها، خصوصاً من العسكريين، هي «مدينة شعبية» على حدّ تسميتها من البطريرك بشارة الراعي، سيف بكركي المصقول والرهيف والمسنون على شفرة مارون المؤسس.
اصدر الاديب واللغوي غانم عاصي كتابه «وجوه وحكايات» بشكل انتولوجي، في 700 صفحة عن «دار كتابنا»، متغلغلاً وسابراً في نسيج قرية حصارات الرابضة على ناحية جبلية بمسافة 12 كلم من جبيل، والمكابرة بعلو رتبة مثقفيها وادبائها مثل نعيم يزبك، امين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، الذي كان يزوره في جبيل. ومذ لحظة سكنها الامير المردي الاهدني شكيبان عام 1111 حتى تحولت حصارات الى حبل غسيل لكل قرى الساحل وبعض الوسط الجبيلي، وتنوّعت اسماء عائلاتها، وعلى هذا النسف خرجت الشاعرة الحصاراتية تموّن الحويك ابراهيم (عاشت 112 سنة) لتقول يوسف بك كرم الذي مرّ بحصارات (لفّ عقال والوربة شلحاً)، تشير الى الامير فخر الدين المعني، الذي كان يمضي اياماً في الصيف خلال ربوع حصارات. وتفتخر حصارات انّ البطريرك الياس الحويك، منتزع الاستقلال اللبناني من مخالب الاستعمار الفرنسي هو خريج حصارات.
واي عيش يُحسن بعد معرفتك بمبدعي حصارات. وحصارات دائما تنقر دفّها متماهية بالشاعر الجاهلي الاعشى، وتضرب صنوجها منشدة:
وكأس شربت على لذة واخرى تداويت منها بها
والاديب اللغوي غانم عاصي يعصر نفسه حتى يقدّم لنا نعيم يزبك «بسترينه» لكل المناسبات رفيع القدر، اصيل المجد، متقدّم في فنون عقلية، سديد البحث جواد حسن العشرة ومفخرة من مفاخر التخوم اللبنانية والعربية.
ولحضارات انسانية تفيض، اقتبس منها الاديب غانم عاصي. وقد تأكّدت من ذلك عندما قارنت كلماته عن الاديب نعيم بما كان يقول لي هذا الحصاراتي في حواراتي الكثيرة معه في بيته الجبيلي.
قال لي الاديب نعيم:
- في تلك السنوات الخالية من نسمة هواء عليل كنت اعبر الى حصرايل عبر الوادي، وهناك في غرفة صغيرة، كان المدعو طنوس يقوم بألعاب رياضية بوزن ثابت هو 105 كلغ، وطنوس كان متماسك الجسم، يزاول الحركات الرياضية، طوله حوالى 182 سم، ويسند ظهره الى نقل والده المادي وانا لم ازاول مرة التمارين في حصاراتي الشعبية المحتاجة.
واقتربت ورفعت الـ 105 كلغ.
تصفيق. من يتمرن بالقلم الرصاص رفع وزناً من الحديد وسار الى نهايته مؤلفاً عائلة كبرى كانت تحتّم عليه شراء الرز بالاكياس لا بالكيلو.
ويتابع الاديب اللغوي غانم اسطفان عاصي رحلته. يمسك قلمه التحليلي الشاعر الشعبي الساخر فكتور انطون والمتهتك من جدايل احدى قرى جبيل الارثوذكسية السبع. وفكتور ماروني تعود اصوله الى قرية معاد والمثل اللبناني يقول: «بجه ومعاد ثلثين البلاد».
قال فكتور من مستخرجاته (وكان مثقفاً رغم انه لا يقرأ)
عام 1936 اقامت فرقة الشحرور حفلة زجل في منطقة بعشتا - عمشيت وكنت انا في الـ 16 من العمر. تحشرت بالفرقة ودعمني البعض، فإذ بي وجهاً لوجه أمام أكبر شاعر شعبي عرفه لبنان، ويومها قلت له:
«عندي حصان مدَلّلو ومخنتو ومن دم صدر الغِد جايب حنتو
ولو نقفتو براس عقدة خنصري لتصير ترقص حنجلي ع رنتو»
وطلع الشحرور من ثيابه وأجاب:
ومن عمشيت عندما بغني قصيد من حر قلبي الدردنيل بفرقعو
قال لي الاديب واللغوي غانم عاصي: من قرأ عليّ قصة الشاعر المعادي فكتور انطون لم يذكر هذه الحادثة، وانا اتلو اعتذاري على قبر فكتور كما قال اعتذاره امرؤ القيس. وعن بقية الانتولوجيا يفخر غانم الاديب بأنّه حكى اسطورة الشاعر الحصاراتي رفيق بولس وكيف غنى مع شيبان سعاده الشاعر الساخر، وطليع حمدان وزين شعيب والاهم مع ابن بلدته المثقف جداً انيس الفغالي وهو القائل:
الليلة بدي خللي الكاس يفز يبوس القنينة
كما ترنّم طويلاً رفيق بولس مع ابن بلدته ميشال شديد ضمن جوقات «نجوم الارز»، «الانطلاق»، «الغدير». والاديب غانم اسطفان عاصي ما زال على صهوات الفتوة عاشقاً لحصارات، لا يمارس المحاماة مقابل معلوم مادي، لأنّه يملك حانوتاً في قريته وجاراً دافئاً لشقيق الشاعر والاديب نعيم شهوان يزبك الرجل القروي اللبناني الذكي جداً حنا يزبك. وقرية حصارات تحكي مسرى القرى اللبنانية.








