إنها 100 عام بالتمام والكمال... 100 عام فقط تفصل ما بين جلوس البطريرك الياس الحويك عن يمين المندوب السامي الفرنسي هنري غورو والمفتي الأكبر الشيخ مصطفى نجا عن يساره لإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 من قصر الصنوبر في بيروت، وما بين جلوس رجال الدين المسيحيين والمسلمين على الحياد فيما تستعجل الطبقة السياسية إعلان دولة لبنان الفقير عام 2020 من قصور السرقات في كلّ المدن اللبنانية.
وفي كتب التاريخ التي حملناها غصباً عنّا إلى المدرسة أحياناً ومللنا من قراءتها في المنزل أحياناً أخرى، توجد سطور ومقاطع وتواريخ لا بدّ من أن نعود إليها اليوم بعدما كبرنا على الدراسة، لعلّنا نتعلّم منها شيئاً أو نتّعظ من إنجازات رجالاتها لحلّ معضلات السياسة الحالية التي كسرت قواعد الفيزياء والكيمياء والفلسفة والجغرافيا وحتى السلوك والأخلاق.
قرأنا في مكان ما أنّ كثيراً من الشخصيات اللبنانية المسيحية والمسلمة كانت تدور على عواصم العالم للدفاع عن فكرة لبنان واستقلاله وسيادته، ولعلّ أول من يبادر إلى ذهننا هو البطريرك الماروني الياس الحويك الذي أثمرت جهوده في الزيارات الخارجية إلى حماية أبناء بلده، وتمكّن من انتشال اعتراف دولي في مؤتمر فرساي ومن بعده مؤتمر الصلح في فرنسا باستقلال لبنان الكبير بعد التفاف المسلمين والمسيحيين حوله. وبالطبع تضاف إلى جهوده الجبّارة، الزيارات التي قامت بها شخصيات عديدة إلى عواصم أخرى لإقناع الإمبراطور جوزف الأول في النمسا والملك فيصل الأول في سوريا وغيرهم كثيرون.
هذا ما فعله اللبنانيون منذ 100 عام تقريباً، ولكن اليوم يدور السياسيون على عواصم العالم لاستعطاء المساعدات والهبات بإسم وجع اللبنانيين ومعاناتهم، فنشطوا منذ حوالى 30 عاماً حتى مَسخوا صورة لبنان وحوّلوه إلى «الوطن الشحّاد»، وما تركوا رئيساً وملكاً وأميراً وحكومة إلّا ومدّوا أيديهم له، وكلّ قرش جلبوه معهم إلى لبنان صرفوه على فسادهم وزعاماتهم وتحالفاتهم المريضة، وتحوّل غالبيتهم إلى غلمان عند الحكّام الإقليميين والدوليين، يزورونهم ليطلبوا مساعدتهم في الدفاع عن لبناناتهم الصغيرة الوسخة وليس عن لبنان الكبير.
منذ 100 عام كان اللبنانيون يزورون عواصم العالم مرفوعي الرؤوس بوطنيتهم، واليوم يذهب السياسيون مطأطئي الرؤوس بطائفيتهم الخالية من كل المبادئ والحلول والنظرة المستقبلية.
عام 1920 تمكّن رجالات لبنان من انتشال اعتراف عالمي بقيام دولة لبنان الكبير الجامعة للمسيحيين والمسلمين... وفي عام 2020 تمكّن صبيان لبنان من فرض اعتراف محلّي ودولي بهبوط دولة لبنان الفقير على المسلمين والمسيحيين، على الميسورين والمحرومين، على المتعلّمين والأميين، وعلى الكادحين والمرتاحين.
دولة لبنان الفقير لم يبق فيها قطاع واحد لا يواجه أزمة، فحرفياً وفعلياً سرطان السياسة اللبنانية أصاب كل مفاصل الدولة، ولم يعد ينفع معهم علاجات لا كيماوية ولا شعاعية، لأنهم جميعهم أبرياء وغسلوا أيديهم من دم هذا الوطن المشلّع من جشعهم وفسادهم وعجزهم.
دولة لبنان الفقير باتت بلا كهرباء، ومياه، وبنى تحتية، وخطط إنقاذية، وحلول جذرية، وحكومة تقنية... وقريباً بإذن السياسيين ستصبح بلا أدوية، ومواد غذائية، وانترنت، واتصالات سلكية ولا سلكية، وستصبح مقطوعة عن العالم.
في 2020، بدأت عائلات تترك منازلها وتسكن خيماً على الطريق لعدم قدرتها على دفع إيجارات، وعائلات تبحث عن المساعدات لتأكل وتشرب، وعائلات تُشعل أثاث منازلها لتتدفّى، وعائلات تموت قبل أن تمرض خوفاً من فواتير الدواء والاستشفاء، وعائلات تدور على حاويات النفايات، وعائلات تتضرّع على أبواب السفارات أكثر من أبواب الكنائس والجوامع.
سيحمل أولادنا وأحفادنا في المستقبل كتب تاريخ إلى المدرسة، وسيقرأون فيها ماذا فعلتم أيها السياسيون حتى وصلتم إلى إعلان دولة لبنان الفقير عام 2020.