• كيف كانت علاقتك بفن الرواية قبل أن تبدأي كتابة نصّك الروائي الأول؟
- الرواية، ذلك البيت الواسع المتكوّن من غرف وألوان كثيرة وأثاث كثير وأصوات تضج بالغناء حيناً وبالبكاء حينا آخر... ذلك البيت الذي أسكنه سراً قبل أن أعلن سكناه للآخرين، ثم انسحب من الواجهة لأتوارى خلف شخوصه، أعيش أحداثه، أعيش شخوصه في ارتفاعها وفي نكوصها، أنفعل بانفعالاتها وأهدأ بهدوئها... هكذا كنت أسكن الروايات التي قرأت قبل أن أسكن الروايات التي كتبت وربما سأكتب...
• هل تأثرتِ في تجربتكِ الأولى بأعمال معينة أو صادفت حدثاً شعرتِ بأنه لا يمكن التعبير عنه إلّا في الشكل الروائي؟
- إنّ العالم جاف جداً وتعيس ومتعب، كئيب ومرهق في بيئة ريفية لا رئة لديها سوى العائلة والطبيعة الغنّاء والمدرسة والمكتبة العمومية، حيث ترعرع شغفي بالرواية وبالأدب والفكر عموما. من هنا نشأ الحلم أن أكتب يوماً نصّي. ومثل كثيرين، رغم الشغف بقراءة الرواية، فإنّ محاولاتي الأولى كانت شعرية في صباي، وكانت أولى محاولاتي في السباق الأدبي، في شبابي، قصصية تفوز بجائزة الأدباء الهواة. ثم كانت أولى إصداراتي في القص القصير جداً قبل سنوات ثلاث ثم الأدب الهجين قبل الرواية.
• يرى بعض النقاد أنّ ما تدور حوله الرواية الأولى عبارة عن سرد لتجربة ذاتية، وُسمّي هذا النوع برواية التكوين. هل يتمثل عملكِ الأول لهذا التوصيف؟
- حتى وإن لم تكن هي أولى محاولاتي الروائية، فإن روايتي المطبوعة الأولى هي «ميلانين»، وهي بكري طباعة ونشراً. ولجت عالم الرواية بخوف ثقيل وبرغبة جامحة، لا في احترام طرائق القول وإنما رغبة في القول، قول ما يؤرقني وقول ما أود أن يصل بيني وبين الآخر. ولجتها برغبة في متمرّدة استغرقت مني سنتين حتى تكتمل، ان اكتملت وتخرج للنور. حين كنت بصددها كنت اشعر بها تنفلت مرة وأنفلت مرة. كأننا كائنان عاشقان نغتاب الفصل بالوصل مرة، ونغتاب الوصل بالفصل مرة وهكذا. عندما وصلت الى قرار عرضها على لجنة قراءة دار النشر كنت قلقة كسيدة بصدد الولادة، حيث الفريق الطبي يدرك اكثر مما تدرك. وانتظرت قلقة عجولة. ثم يأتي النشر والتوزيع واللقاء الحقيقي بين ميلانين وقرائها. لم أفكّر كثيراً في رأي النقاد، ذلك أنني رغم اشتغالي بالنقد وادراكي لأهميته ودوره إلّا أنني كنت منشغلة أكثر بما سيصل القارئَ مني عبر ميلانين. وإلى الآن وقد انتهت الطبعة الأولى أشعر ببهجة طفلة أمام كل رسالة تصلني أو قراءة أعثر عليها فجأة على صفحات الفايسبوك تخصّ ميلانين. تأثرت فيها بشكل بيّن بالروايات التي رافقت شغفي وفكري ولا تزال ترافقني. فيجد القارئ فيها صدى لموسم الهجرة إلى الشمال، بل وأذكر الرواية واشتغل على المقابلة والتناص بين الاثر الذي أكتب والأثر الذي يخاطبني حتى اليوم. كانت الثيمة التي أطرح تحتاج اتساعاً يحتويها بتشعباتها وتمظهراتها، ولم يكن بنظري من الممكن أن أطرحها كما أردت طرحها إلّا في نصّ سردي طويل، وإلّا فإنّه كان يجب تخصيص متوالية قصصية أو مجموعة قصصية بلوحات عدة لذات الثيمة. ولكن ذلك ما كان ليكون بالقوة التي يحتاجها الموضوع ومن ثم كانت الرواية. لا تفاضل بين الأجناس الأدبية من حيث القيمة، ولكن التفاضل يكون من حيث الاتساع ... فالفكرة المتشعبة تحتاج مساحة واسعة، والرواية ملعب يتسع لكل فكرة وموضوع وهاجس.
• هل تعتقدين بأنَّ سراً وراء تصاعد الإصدارات الروائية يكمنُ في ما يوفره هذا الفن من الحرية في إطار أوسع لتناول المفاهيم الإجتماعية والفكرية والسياسية وتراخي سلطة الرقيب في عالم الرواية؟
- إنّ الكتابة بصفة عامة لا تنفصل عن كاتبها. ومن العبث أن نتنصّل من كتاباتنا، ومن العبث أيضاً أن نتصل بها فلا ننفصل. كل ما نكتبه هو بالضرورة حالة من الفكر، خصوصاً ان الكاتب يروم مشاركتها القارئ ولكنها ليست بالضرورة سيرته الشخصية، إلا إذا بوّبها الكاتب كسيرة. نعم روايتي تشبهني، بعثرت فيها نفسي وأظنني فاعلة في كل ما أنتجت أو سأنجز... لا بدّ من الوعي بأنّ الكاتب يكتب القضايا التي تشغله بوصفها اشكاليات لا بوصفها بوحاً. والرواية الاولى بنظري هي فعلاً رواية التكوين، وهي من الأهمية بمكان في صناعة التجربة الروائية للكاتب الروائي، وكذا في صناعة قارئ لهذا الكاتب، لأنني من أشد المؤمنين بفرادة النص والكاتب والقارئ، بمعنى يكتب الكاتب اشكالياته والقارئ يبحث عن اشكالياته، فيجمع بينهما النص الذي سيكون حلبة رقصة فالس بين الكاتب وقارئه.
• هل تعتقدين أنّ الورشات الخاصة بكتابة فن الرواية تزودُ المشاركين فيها بأدوات صنعت هذا الفن. ماذا عن تجربتكِ في هذا المجال؟
- لا تنشأ الرواية صدفة ولا ينشأ الروائي صدفة. إنّها أجنّة تُزرع وتنمو على مهل. لا تكفي الموهبة لصنع رواية ولا لصنع روائي وبالمقابل، فإنّه لا يكفي الانخراط في ورشات الرواية لتكون الرواية. هناك الجامعات والنوادي التي تقترح ورشات للكتابة، وهي بنظري خطوة هامة جداً. فالكتابة بصفة عامة خلطة عجيبة بين الابداع والصنعة وبين الموهبة والتمرين. ورغم ذلك فإنني لم أشارك مطلقاً في مثل هذه الورشات، ذلك أنني أرى أنّ كل الانتاج مشغَلاً ومختبراً لا ينضج عند خط معين بل يستمر بالنضج حتى نضع القلم والورقة أو نطفئ «اللاب توب» بانطفائنا عن الحياة.