زلزالُ الوثائق: بدأ سقوط النظام الأمني
زلزالُ الوثائق: بدأ سقوط النظام الأمني
طوني عيسى
جريدة الجمهورية
Wednesday, 10-Oct-2012 01:53
الآتي أعظم. لم تَعُد المسألة مقتصرة على انتظار المحكمة الدولية في أولى جلسات المحاكمة، المقرَّرة مبدئيّاً في 25 آذار 2013. فقبل الوصول إلى هذا التاريخ... سيكون زلزال الوثائق والمستندات قد أنجز جزءاً وافياً من المَهَمَّة.
تَمزَّق الستار الحديدي الذي كان الأمن السوري يُخزِّن فيه أسراره، وبدأت تتسرّب الوثائق... السليمة والمدسوسة ربّما. لكن ذلك، في الحالين، يعني نِصفَ سقوط للنظام السوري، وبداية السقوط الكامل للنظام الأمني الذي يرتبط به في لبنان.

الصورة شبيهة بسقوط مقرٍّ للاستخبارات قبل أن يتمكَّن عناصره من إتلاف الوثائق. أو بالأحرى، قيام عناصر المقرّ أنفسهم بانقلاب استولوا خلاله على الكنوز المدفونة منذ عشرات السنين في الأقبية والدهاليز. وهذا ما حدث في بعض أوروبا الشرقية خلال انهيار المنظومة السوفياتية، وفي العراق خلال الاجتياح الأميركي، وفي ليبيا خلال الثورة على العقيد معمر القذافي.

النظام يخشى هذا التسرُّب أكثر بكثير ممّا يخشى التسرُّب من سلاحه الكيميائي. فأسرار الأمن السوري لطالما صَنعت الكثير من السياسة والأمن، والسياسيّين والأمنيّين، في لبنان والعراق والأردن وفلسطين وسواها، على مدى عشرات السنين. وجدران "البوريفاج" شاهدة على ذلك. وخروجُ هذه الأسرار إلى الضوء سيكشف الكثيرين في بلدان الجوار السوري، ويُحرِقهم.

كان النظام السوري عبر تاريخه فخوراً بأنّه الأكثر مناعة، وبأن لا شيء ولا أحد قادر على خرقِه. بل كان يفاخر بخرق كلّ الناس في الجوار السوري. أمّا في لبنان، فهو "يُخَرْدِق" البلد بأمّه وأبيه. وبالفعل، على رغم مرور سبع سنوات على خروج القوات السورية من لبنان، فإنّ النظام الأمني اللبناني - السوري ما زال حيّاً يُرزق! وهو يَظهر كلّ يوم وأينما كان، من المجلس النيابي والحكومة إلى معظم الأجهزة والمؤسّسات والأحزاب والتيارات على اختلافها.

اليوم، يترنّح النظام الأمني فعليّاً في لبنان. فالمنشقّون عن النظام السوريّ خرجوا منه حاملين الأسرار الخطرة، وبدؤوا يعرضونها للرأي العام. وخطورة هؤلاء أنّهم يعرفون تقريباً كلّ شيء: الاغتيالات والمحاولات والمعتقلين والرسائل... والأسماء والأماكن والتواريخ. وهم قادرون على أن يُرشِدوا إلى القبور والسجون والأقبية. وطبيعي أنّ يقوم هؤلاء بذلك تدريجاً، وفي المقدار الذي تسمح لهم ظروف المواجهة مع النظام. واللبنانيّون أكثر المنتظرين على نار. إنّهم يريدون التأكّد بالوثائق أنّ اتّهاماتهم ليست فقط سياسية.

من كمال وبشير إلى "ثوّار الأرز" , الوثائق المقبلة، ولو تأخّرت، ستكشف الكثير: كمال جنبلاط، بشير الجميّل، رينيه معوّض، ورفيق الحريري وسواهم من شهداء "ثورة الأرز" والشهداء الأحياء، والعشرات بل المئات والألوف على مدى سنوات طويلة من الصراع الدموي في لبنان.

الوثائق تَنشَقُّ عن النظام وتكشف الخفايا، والوزير السابق ميشال سماحة يكمل النواقص بتسجيلاته. وفي معزل عمّا إذا كانت قناة "العربية" قد وقعت على وثائق حقيقية لا يرقى الشكّ إلى دقَّتها أم لا، فالمؤكّد أنّ ما تنشره سيكون من علامات المرحلة المقبلة، سواء في الشقّ اللبناني أم السوري: إغتيال النائب جبران تويني تمَّ بناءً على أوامر مهمة، واغتيال الشيخ أحمد عبد الواحد كذلك، واغتيال نجل مفتي سوريا، وقتل الطيّارين التركيين، والبقية تأتي.

المتابعون يتوقّعون سيلاً من الفضائح، عبر وسائل مختلفة، لا يستطيع أن يتحمّله النظام ونظامُه الأمني - السياسي في لبنان: مثلاً المعلومات التي تكاد تكون مثبتة في ملفّات بيار الجميّل ومروان

حمادة وسواهما. فهذه المعلومات معروفة ومتداولة، ولكن إذا تمَّ تأكيدها بالوثائق، فسيكون المتورّطون فيها قد دخلوا مرحلة صعبة جدّاً. وستتراكم الاتّهامات بالضلوع في ملفّات كثيرة ومترابطة، بحيث يصبح من الصعب على هؤلاء المتورّطين أن يخرجوا من ورطتهم.

وسيكتمل المشهد إذا ثبُت الدور الميداني لـ"حزب الله" في معارك سوريا. وفي ذلك، يصبح محتوماً انهيار المنظومة السياسية - الأمنية التي ترعرعت تحت الجناح السوري في لبنان على مدى عشرات السنين. ومع هذه المنظومة، سيسقط الذين التحقوا بها حديثاً للإفادة من خدماتها التحالفية. وسيكون سقوطهم عظيماً!

وهناك مَن يعتقد بأنّ حجم الفضائح التي أتاح المنشقّون عن النظام خروجها إلى الضوء ما يزال ضئيلاً، قياساً إلى ما سيظهر لاحقاً. وفي المرحلة السابقة، كان الطاقم السياسي - الأمني - القضائي في لبنان جزءاً من ماكينة النظام السوري. وبناءً على ذلك، تمَّت "فبركة" الملفات للبنانيّين، ولم يسلم منها الفلسطينيون. وجرى ابتكار ملف لسلطان أبو العينين لاستخدامه كورقة ضغط. وأمّا اليوم، فهناك ملامح جرأة لبنانية في الانشقاق على النظام... ولو في شكل جزئي ونسبي.

في لبنان، بدأ السقوط الحقيقي للمنظومة الرديفة للنظام، بالتزامن مع حَشْرة النظام نفسه في سوريا. وفيما يلوِّح هذا النظام بالزلزال الشرق أوسطي، تبدو الوثائق المتناثرة في خريف النظام، وكأنّها المقدّمات الجيولوجية الأولى التي تمهِّد لزلزال معاكس.
theme::common.loader_icon