
.png?w=745&h=535&fit=crop)
الفيلم الإنساني العميق والفريد من نوعه للمخرج تشارلز بورنيت من عام 1999، من بطولة جيمس إيرل جونز، يحصل أخيراً على عرض سينمائي.
أوباديا جونسون - الروح الضائعة التي يؤدّيها ببراعة جيمس إيرل جونز في فيلم «إبادة فيش» - يمتلك صدراً ضخماً وصوتاً يبدو وكأنّه خرج، دافئاً ومصقولاً، من أعماق لا يمكن تصوّرها. إنّه أداة يعرفها كثيرون من «حرب النجوم» و»الأسد الملك»، حين جسّد جونز صوت اثنَين من أكثر الشخصيات الأبوية رمزية في السينما.
ومع ذلك، فإنّ فصاحة صوته العميق كانت أيضاً عنصراً أساسياً في أعمال أقل شهرة مثل «إبادة»، فيلم تشارلز بورنيت الإنساني العميق والنظرة الفريدة من الهامش، الذي يحصل على عرض سينمائي بعد 26 عاماً من عرضه العام الأول في مهرجان سينمائي.
يبدو من الصادم أن يستغرق الأمر كل هذا الوقت حتى يصل الفيلم إلى دور العرض، خصوصاً بالنظر إلى المكانة الرفيعة التي يتمتع بها بورنيت؛ ففيلمه الرائع «قاتل الخراف» (1978) يُعدّ علامة فارقة في السينما الأميركية، وسمعته راسخة منذ زمن طويل.
هناك أسباب عدة لعدم وصول «إبادة فيش»، فيلمه الروائي الخامس، إلى العالم في وقت سابق. من بين هذه الأسباب أنّ صناعة الأفلام المستقلة الحقيقية، التي تتجاوز القوالب والتوقعات وتخلو من الرعاية التجارية، لطالما كانت صعبة التسويق. وبورنيت، الذي تشمل أفلامه «النوم مع الغضب» (1990) القصة القوطية الجديدة عن دخيل جنوبي تتنقل بين الدراما والكوميديا، كان دائماً يتحدّى التصنيفات. لا يمكن وضعه في خانة واحدة.
بدوره، يتجنّب «إبادة فيش» التصنيف، سواء بالنوع أو غيره. الفيلم غالباً ما يكون لطيفاً ومضحكاً، لكنّه ينحرف أحياناً إلى تجاوزات صاخبة، مع لمحات من الكوميديا الجسدية وسخافات مثيرة.
كما هناك تيار قوي من الكآبة يسري في القصة، ممّا يُعقّد ويُزعزع أحياناً كوميديتها. هناك لحظات تجعلك تضحك، لكنّك غير متأكّد ممّا إذا كان ينبغي لك ذلك، وأحياناً تتساءل (وتقلق) عمّا إذا كنتَ تضحك مع الشخصيات أم عليها، وما إذا كان ذلك مهمّاً. معظم الأفلام ترشدك إلى متى يجب أن تضحك أو تبكي؛ لكن هذا الفيلم لا يفعل ذلك.
كتب السيناريو أنتوني سي. وينكلر، ويروي الفيلم قصة أوباديا - الذي يُعرف باسم فيش - المهاجر الجامايكي الذي عاش طويلاً في منشأة عقلية في نيويورك ويدّعي أنّه تطارده شيطانة غير مرئية يُسمّيها «هانك».
تظهر الشيطانة فجأة، كما تفعل الكائنات الشيطانية، ويُبقيها فيش تحت السيطرة من خلال مصارعتها. نجده يتصارع معها في الكنيسة بعد وقت قصير من بداية الفيلم، وهي مشاجرة تنتهي بطرده فجأة من منزله الجماعي. «كان الأمر مثل بيرل هاربر، هجوم مفاجئ!» يحتجّ أمام أحد المسؤولين. لكن لا يَهمّ، فسرعان ما يكون خارج الباب مع حقيبته متّجهاً غرباً، فتبدأ قصته حقاً.
ينتهي الأمر بفيش في ذلك الفردوس المليء بالتناقضات، لوس أنجليس، فينتقل إلى مبنى سكني متواضع ومتهالك تُديره سيدة غريبة الأطوار ووَدودة، السيدة مولدرون (تُجسّدها مارغو كيدر بشكل رائع).
بحديقته المُوَرّقة وداخله المتآكل والمتقشر، يبدو المبنى كمكان يمكن أن يستغله كل من ناثانيال ويست وديفيد لينش بطريقة شعرية ومظلمة. لكن في المقابل، يستقر فيش فيه ببراغماتية شخص يجب أن يتكيّف مع القليل الذي وفّرته له الحياة: يُجمِّل شقته الجديدة، مُحوّلاً البؤس إلى منزل. وسرعان ما يلتقي ببوينسيتيا (لين ريدغريف).
الشخصية الأكثر تعقيداً في الفيلم، بونيسيتيا، تُقدَّم قبل لقائها بفيش؛ تعرف أنّها مُهمّة في قصته من الطريقة التي يقطع بها بورنيت بينهما، وكأنّه وسيط قلق. بونيسيتيا شخصية صاخبة، مبالغ في تصرّفاتها، وتدّعي أنّها على علاقة بالمؤلف الموسيقي الإيطالي المتوفّي جياكومو بوتشيني، وهو هَوَس يتخلّله بعض الكوميديا المتكلفة. يتحسن الوضع عندما تغادر إلى لوس أنجليس أيضاً (قبل مغادرتها، يدرج بورنيت إشارة إلى فيلم «فيرتيغو»، أحد كلاسيكيات الحُبّ المجنون)، فتنتقل إلى الشقة المقابلة لفيش.
الكثير ممّا يَلي يتعلق بعلاقة فيش وبونيسيتيا، التي تتشكّل ببطء وسط ليالٍ طويلة مليئة بالحديث ودخان سجائرها وجَولات من لعبة الجين رومي. مثل فيش، تعيش بونيسيتيا بمفردها، ويبدو أنّها غارقة في أفكارها، وبعيدة عمّا يعتبره الآخرون حياة طبيعية. قد تكون مريضة؛ كما يُلاحظ فيش في بداية تعارفهما، فهي تشرب كثيراً. الشخصيتَان وحيدتان جداً؛ إنّهما منبوذان بطريقتهما الخاصة. لا يقولان ذلك صراحة، لكنّهما لا يحتاجان إلى ذلك، لأنّ قسوة العالم الأكبر تتضح لحظة يُسرّح فيها فيش رسمياً بختم مطاطي.
يحتضن جونز الفيلم بأكمله، ويُضفي على فيش جاذبية رقيقة تزداد وضوحاً مع تطوّر القصة وتعميق المشاعر. تتكشف خلفية فيش تدريجاً، لكنّ حياته الداخلية، لطفه، كرامته وفضوله، تتبلوَر فور ظهوره على الشاشة.
فيش أرمل، وفي المشاهد الأولى، يلعبه جونز بتحفّظ دقيق، كما لو أنّ الشخصية قد خبّأت جزءاً من نفسها منذ زمن بعيد. ومع تقاربه من بونيسيتيا، يَلين نظره، يبتسم، ويصبح أكثر تعبيراً وانفتاحاً. يستمر في مصارعة شيطانته، لكن ليس دائماً بمفرده.
بونيسيتيا أصعب في التعاطف معها، جزئياً بسبب مبالغتها. هناك عنصر قوي من التهريج في أداء ريدغريف، في الطريقة التي تلوّح بها بذراعَيها بشكل مبالغ فيه، وكيف تشكّل فمها بابتسامات وعبسات متطرّفة.