في الحملة الرئاسية الأخيرة، تعاطفت غالبية المغتربين اللبنانيين في الولايات المتحدة مع دونالد ترامب لا مع كامالا هاريس، لاعتقادهم أنّه أكثر اهتماماً بلبنان. لكن بعض الأميركيين المتابعين للملف اللبناني يقولون: الأحرى أن نسأل اللبنانيين أنفسهم إلى أي حدّ سيتعاونون مع واشنطن عندما تقدّم إليهم المساعدة؟
يقول ديبلوماسي وثيق الإطلاع على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ولبنان: منذ اتفاق الطائف، عمل الأميركيون كثيراً لضمان استقرار لبنان وسلطته المركزية، كي يبقى جاهزاً حتى لحظة الدخول في التسويات الإقليمية الكبرى. وفي العام 2005، بعد تحولات 11 أيلول وحرب العراق، حاولت الإدارة الجمهورية، مع الرئيس جورج بوش الإبن، عزل لبنان عن أزمات المنطقة، عندما عملت على إخراج سوريا ورفع وصايتها عن قراره.
لكن مسار الأحداث في لبنان اتخذ بعد ذلك شكلاً معاكساً. فقوى 14 آذار التي راهنت على معالجة العلاقة مع «حزب الله» في إطار العلاقات الداخلية، من دون تدخّل أميركي، اصطدمت به وباتت على تماس مباشر وحدها مع نفوذ إيران. ومع أنّ حرب تموز 2006 انتهت بالقرار 1701 الذي يشكّل فرصة ثمينة لتأكيد دور الدولة المركزية في مواجهة إسرائيل ونفوذ إيران في آن معاً، فإنّ قوى 14 آذار تضعضعت تدريجاً تحت الضغوط المختلفة، بما فيها الاغتيالات، حتى سلّمت السلطة نهائياً إلى خصومها.
في هذا الخضم، كانت ولاية باراك أوباما قد بدأت، وفتحت طهران أقنية تفاوض مع الإدارة الديموقراطية حول ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، انتهت في العام 2015 باتفاق فيينا.
في العام 2017، عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض بنسخة جديدة هي ترامب، ومعه عاد نهج التشدّد مع طهران و«حزب الله». لكن هناك فارقاً مهمّاً بين بوش الإبن وترامب. الأول كان يفضّل حسم الملفات بالحروب إذا لم يكن الضغط السياسي والاقتصادي كافياً، فيما الثاني يفضّل ممارسة هذا الضغط بهدف دفع الخصوم إلى القبول بصفقة شاملة، وهم في موقع الضعيف.
منذ اللحظة الأولى لولايته السابقة، قرّر ترامب تشديد الحصار على «حزب الله». وفي هذا السياق، عطلت إدارته مفاعيل مؤتمر «سيدر»، بناءً على مقولة أنّ أموال المساعدات الآتية إلى لبنان تقع في يد «حزب الله» وترسّخ نفوذه في الدولة. وفي العام التالي، 2019، قدّمت إدارة ترامب دعماً معنوياً واضحاً إلى انتفاضة 2019. لكن المثير هو أنّ نتائج الحصار الأميركي جاءت معاكسة، إذ أدّى إلى انهيار لبنان لا «حزب الله»، وسقطت انتفاضة 2019 كما انتفاصة 2005، وبقي «الحزب» ممسكاً بالجزء الأكبر من القرار المركزي حتى رحل ترامب، وجاء جو بايدن إلى البيت الأبيض ليعيد نهج أوباما.
خلاصة الأعوام الـ20 الأخيرة في لبنان، هي أنّ هناك جدلاً ساخناً بقي يدور في الأوساط المعنية: مَن المسؤول عن فشل قوى 14 آذار في مواجهة إيران، وفي إبعاد سيطرتها على القرار المركزي: «تخاذل» الإدارات الأميركية أم «تراخي» الحلفاء في لبنان وعدم جدّيتهم في المواجهة؟
ليس خافياً أنّ الطرفين يتبادلان الاتهامات بتحمّل المسؤولية عن هذا الفشل. ففريق 14 آذار كان يقول إنّ واشنطن تكتفي بدعمه سياسياً، أي «بالكلام»، ولا تقوم بأي خطوة عملانية تُضعف إيران أو تقطع تدخّلاتها ومساعداتها لـ«الحزب» بالمال والسلاح، عبر الجسر المفتوح في سوريا والعراق، إضافة إلى التغطية السياسية. وسأل هذا الفريق مراراً: كيف يمكن لقوى محلية محدودة الحجم والقدرات أن تواجه محوراً إقليمياً هائلاً تعجز الولايات المتحدة وحلفاؤها عن إضعافه؟
في مقابل هذا المنطق، يقول الأميركيون المتحمسون لترامب إنّ الإدارات الجمهورية لم تقصّر في دعم القوى الحليفة في لبنان، وإنّ إدارته واجهت إيران بقوة، وسدّدت إليها ضربات مؤلمة، وشدّدت الحصار على حلفائها في الشرق الأوسط، لكن الولايات المتحدة كدولة لا يمكنها الدخول في حرب معها. ومِن مسؤولية قوى 14 آذار أن تنسق خطواتها سياسياً لتكون أكثر فاعلية، بالوسائل الديموقراطية المتاحة.
ردّ 14 آذار في هذا الشأن جاء في انتخابات 2022، التي نجحت في إيصال غالبية من خصوم «الحزب» ومجموعة من «المستقلين» إلى المجلس النيابي. لكن التوازنات السياسية وكفة القرار في السلطة لم تتبدّل مع تبدّل الغالبية في المجلس. وفي رأي 14 آذار أنّ من العبث الرهان على التغيير في التوازنات السياسية، ما دام الدعم العسكري والمالي الإيراني مستمراً.
الآن، تبدو الصورة مغايرة، ولو بنسبة معينة، إذ طرأت تحولات هي الأولى من نوعها في لبنان والمنطقة. فـ»الحزب» خسر فعلاً خط الدعم الإيراني والخلفية التي كان يوفرها له نظام الأسد، كما تراجعت إمكاناته بسبب الحرب، ولكن حدود التراجع ليست واضحة حتى الآن. وبات هناك اقتناع في واشنطن بأنّ من الممكن جدّياً تحقيق الهدف الذي لطالما سعى الأميركيون إلى تحقيقه في لبنان، وهو تغيير واقع السلطة. وهم يعتقدون أنّ «البنية التحتية» لتحقيق هذا الهدف باتت متوافرة من خلال انتخاب الرئيس جوزاف عون وتسمية نواف سلام رئيساً للحكومة، وأنّها ستكتمل بتشكيل الحكومة التي يفترض أن تكون متوازنة وعلى مثالهما، وبرنامجها المفترض أن يكون إصلاحياً. لكن نجاح هذا المشروع يرتبط واقعياً بنجاح اتفاق وقف النار في الجنوب وانسحاب إسرائيل من المناطق التي تحتلها وانتشار الجيش. وهو ما سيتكشف الأحد المقبل، عند انتهاء مهلة الـ60 يوماً.
إذاً، ومع اليوم الأول لعودة ترامب إلى البيت الأبيض، يجتاز لبنان أياماً معدودة حساسة جداً، بين الإعلان عن تشكيلته الحكومية وصوغ برنامجها وانتهاء مهلة الـ60 يوماً. ففي خلال أسبوع، سيتقرر الاتجاه: هل توافرت مع ترامب فرصة التغيير الذي حاول بوش تحقيقه في لبنان قبل 20 عاماً؟ أم سيضيع الهدف مجدداً، في انتظار تقاطع للفرص، قد يطول انتظاره كثيراً هذه المرّة؟