والحال التي نشأت راهناً بعد رسو الاستشارات النيابية الملزمة على اسم القاضي نواف سلام، واعتبار الثنائي الشيعي انّه تعرّض لمكيدة وانقلاب على ما كان اتُفق عليه قبيل الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي حملت الرئيس جوزاف عون إلى قصر بعبدا، لها ما يشابهها في تاريخ لبنان المعاصر، عندما كانت مكونات طائفية وسياسية مستهدفة بالتهميش او العزل. والمؤكّد أنّ الرئيس جوزاف عون ليس هو من يسير في أي خيار غير ميثاقي يشتّم منه مساساً بالمسلّمات الدستورية والمساواة بين المواطنين جماعات وأفراداً، وهو ابن المؤسسة العسكرية العابرة للمناطق والطوائف، وتتجلّى فيها الوحدة الوطنية خياراً استراتيجياً لا محيد عنه. ولذلك لن يُقدم على ما يخدش العهد في بداياته لا من قبيل المداراة، بل عن اقتناع. وعلى المنوال نفسه ينسجم رئيس الحكومة المكلّف، وهو ابن الصيغة التي نشأ عليها في كنف عائلة سياسية عريقة لها دورها وتاريخها الوطني، ولو انّه كان في بداياته ثائراً، وحاملاً لأفكار تقدّمية بصيغة سبعينيات القرن المنصرم.
على سبيل التذكير. نعود في الزمن إلى العام 1958 عندما شكّل الرئيس رشيد كرامي الحكومة الأولى بعدما وضعت هذه الأحداث أوزارها، وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. لم يرق لـ» حزب الكتائب اللبنانية» برئاسة الشيخ بيار الجميل لا التركيبة الحكومية التي أقصت الحزب الذي كان طرفاً أساسياً في الأحداث، ولا تصريح كرامي الذي قال يومها إنّ حكومته جاءت لتقطف «ثمار الثورة»، وتزامن ذلك مع خطف الصحافي في جريدة «العمل» فؤاد حداد المعروف بتعليقاته اللاذعة ضدّ الرئيس جمال عبد الناصر في زاويته اليومية «نقدات أبو الحن». دعا حزب «الكتائب» إلى «ثورة مضادة»، فتحرّكت الارض في مناطق جبل لبنان وخصوصاً في كسروان والمتن وجبيل وقُطعت الطرق، وشملت هذه «الثورة» زحلة وجزين والبترون والقبيات وسواها من المناطق، وسُجّلت حالات فرار من الجيش، وفي بيروت بلغ الغليان أشدّه، وهاجم متظاهرون غاضبون الوزير يوسف السودا في بكفيا وطوقوا منزله، وهو المحامي اللامع والشاعر والأديب والمناضل من أجل القضية اللبنانية ومؤلف كتاب: «في سبيل لبنان» وكتاب «الأحرفية»، وكان بيار الجميل يعتبره والداً روحياً وملهماً للقضية. ولكن لا رحمة عندما يتعلق الأمر بالخيارات السياسية، وتثبيت المواقع في السلطة. لم تعمّر حكومة كرامي التي شكّلها في 24 أيلول 1958، وهي التي كانت تزخر بهامات وطنية وكفايات مشهود لها، وحلّت مكانها حكومة جديدة في 14 تشرين الأول 1958، ضمّته إلى بيار الجميل، حسين العويني وريمون إده، بشعار آخر: «لا غالب ولا مغلوب» الذي أمسى شعاراً ملازماً للسياسة اللبنانية، كما شعار الرئيس صائب سلام الشهير»التفهم والتفاهم».
تكرّ سبحة الزمن لتستقر على تاريخ 25 نيسان 1973، عندما كلّف الرئيس سليمان فرنجيه الدكتور أمين الحافظ تشكيل حكومة جديدة خلفاً لحكومة الرئيس صائب سلام الذي استقال اعتراضاً على عدم إقالة قائد الجيش العماد اسكندر غانم على خلفية العملية الإسرائيلية في فردان في العاشر من نيسان 1973 والتي أدّت الى إغتيال ثلاثة من كبار قادة المقاومة الفلسطينية: كمال ناصر، كمال عدوان وابو يوسف النجار. وعلى رغم من أنّ الحافظ كان من أحد مناصري القضية الفلسطينية الكبار، وأنّ والده العلامة الشيخ اسماعيل الحافظ، وزوجته ليلى عسيران هي من الأديبات الرائدات المعروفة بالتزامها بقضية فلسطين، فإنّ المناخ الإسلامي والتقدمي كان مشحوناً إلى أقصى الحدود، فاستقالت قبل أن تمثل أمام المجلس النيابي في 8 تموز 1973، وذلك تحت ضغط كبير مارسته الحركة الوطنية والقيادات الإسلامية. وللتاريخ، فقد كان للرئيس كميل شمعون موقف مميز عندما أعلن أنّ كتلة «حزب الوطنيين الاحرار» لن تشارك في جلسة الثقة طالما أنّ هناك شبه إجماع إسلامي على رفض تكليف الحافظ ومنح الثقة لحكومته.
على إثر نشوب الحرب اللبنانية بعد حادثة عين الرمانة في 13 نيسان 1975 واستقالة حكومة الرئيس رشيد الصلح، كلّف فرنجيه الزعيم نور الدين الرفاعي تشكيل حكومة جديدة، فأعلن الأخير حكومته من 8 وزراء جميعهم من العسكريين بإستثناء وزير مدني عُهدت اليه وزارة الخارجية والمدربين والسياحة هو الدكتور لوسيان دحداح. ولم تعمر هذه الحكومة سوى 9 ايام من 23 أيار 1975 حتى 1 حزيران من العام نفسه. وذلك بعد بروز معارضة مشتركة من القوى الإسلامية والحركة الوطنية والكتلة الوطنية. وكانت هذه أول وآخر حكومة عسكرية في لبنان، ويومها شاعت مقولة طريفة للعميد موسى كنعان: «نحن لسنا حكومة عسكرية، بل حكومة عسكريين».
وفي عهد الرئيس أمين الجميل كان لقوى الحركة الوطنية وحركة «أمل» الدور الكبير في الضغط على حكومة الرئيس شفيق الوزان التي كانت تضمّ شخصيات طغى عليها الطابع التكنوقراطي على رغم من تماهيها مع سياسة العهد بصورة غير نافرة. فأُسقطت بعد إسقاط إتفاق 17 أيار وتُؤلف على أنقاضها حكومة جديدة بعد مؤتمري لوزان وجنيف، أكملت ولايتها بتعثر واضح شلّها وألجأها إلى بدعة المراسيم الجوالة، وهي فُجعت باغتيال الرئيس رشيد كرامي، وتابعت مسيرتها بصعوبة بقيادة الرئيس سليم الحص، قبل أن يعيّن الرئيس الجميل حكومة انتقالية برئاسة العماد ميشال عون عشية انتهاء ولايته الرئاسية في الثالث والعشرين من أيلول 1988.
ومما تقدّم يمكن إستخلاص آلاتي:
ـ أولاً: إنّ اي مكون لا يمكنه شطب، أو تغييب او إقصاء، أو تهميش، أو استفراد أي مكون سياسي في لبنان. وهذه قاعدة يعرفها تماماً رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة المكلّف القاضي نواف سلام. ولا يمكن إلّا أخذها في الحسبان لمعرفتهما الجيدة بواقع لبنان وتركيبته.
ـ ثانياً: إنّ جميع الأطراف محكومون بالحوار والجلوس إلى طاولة واحدة للبحث في كل الأمور الخلافية أو الإشكالية ورسم خريطة طريق للبنان المعافى، بعد الزلازل التي عصفت به بعيداً من الهواجس والمخاوف، لأنّهم تساووا في المعاناة، وواجهوا معاً أصعب الاستحقاقات وأدقها. ولا يمكن احتكار «خوف متخيّل»، مثلما لا يمكن احتكار «نصر مزعوم». وبالتالي، فإنّ الالتقاء حول العناوين الجامعة هو قدرهم.
ـ ثالثاً: يجب تشكيل حكومة تكون الأكثر والأوسع تمثيلاً، وتسهيل مهمّة الرئيس المكلّف لكي تأتي على هذه الشاكلة، وذلك من دون لبس أو غموض. وإذا رغب اي طرف في عدم المشاركة، فعليه أن يبادر إلى إعلان نيات يشي بموقفه بوضوح، لا أن يعمد إلى سياسة الكمون والغموض.
تتسارع المفاوضات في موازاة العمل الجاري على تفادي المطبات، وتتركّز الاتصالات مع الثنائي الشيعي، الذي تقول اوساطه انّه لا يريد معاكسة جو الإجماع اللبناني والتشويش عليه، لكنه في الوقت عينه يرفض أن يُستهدف و»يُعاقب بمفعول رجعي»، لأنّه لن يسكت في هذه الحال عن أي موقف مستفز يطاوله. وعُلم أنّ فرنسا التي يزور رئيسها إيمانويل ماكرون لبنان اليوم لتهنئة الرئيس عون ورئيس الحكومة المكلّف سلام، ستوجّه عبره رسالة قوية بوجوب ولوج المرحلة المقبلة بإرادة جامعة لطي صفحة الماضي وتجاوز مفاعيلها على غير صعيد، وأن يكون الجميع في صلب العملية السياسية لا خارجها أو على طرفها. وإن ثمة مهمّة لباريس تتمثل بالمساعدة في حل الوضع الناشئ جراء الموقف الشيعي، نظراً لعلاقتها الجيدة مع الثنائي، ووجود تواصل دائم وجيد معه لم ينقطع منذ سنوات طويلة، بما يتيح القيام بدور إيجابي في رأب الصدوع وتدوير الزوايا. والأهم هو الإتعاظ من أحداث الماضي والاستعبار بها، وعدم تكرارها، و«ما في حدا عقِل وندم».