تستعد المصارف اللبنانية لمواكبة مرحلة الإعمار عبر تحضير باقات إئتمانية جديدة تعطي قروضاً لإعادة البناء والإعمار. وتتعامل المصارف مع المرحلة الجديدة وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّ ما حصل في «سرقة العصر» هي حادثة بسيطة تمرّ وينساها الجميع، ويعودون إلى علاقات طبيعية مع المصارف التي خسرت أعزّ ما يمتلكه القطاع المصرفي، أي الثقة.
في مقابل ذلك، تبدو جمعيات المودعين في موقف ضعف، تجتمع مع حاكم مصرف لبنان متوسلةً أن يزيد الدفعات الشهرية للمودعين، وكأنّ دور هذه الجمعيات بات التوسل للحصول على حفنة من أموال هي حق لهم.
علماً أنّ موقف جمعيات المودعين يجب أن يكون جازماً لتحقيق المحاسبة والاطلاع على حسابات المصارف كل على حدة، ومقارنتها بحسابات المصرف المركزي. هذا ما يجب أن تطالب به جمعيات المودعين من حاكم المصرف المركزي، وأن تضغط لإقالته إذا لم يحقق هذه المطالب.
وهذه المطالب لا تعني أنّ المودعين يريدون أي أذى للمصارف، إنّما جُلّ ما يُريدونه هو التحقق من الحسابات لمعرفة مَن السارق ومَن البريء. فمَن سرق الناس لن يتمكن من الهروب من المحاسبة مهما طال الزمن، وستبقى لعنة شقاء عمر الناس تلاحقه هو وأحفاد أحفاده. وتستعد الحكومة لإقرار تعديلات على قانون النقد والتسليف إرضاءً لصندوق النقد الدولي، من دون المَسّ بصلاحيات الحاكم الماروني، وتأتي هذه التعديلات بطريقة سخيفة مدّعيةً أنّها ستضمَن الشفافية والرقابة في عمل المصرف المركزي، ومن التعديلات المطروحة:
- الفَرض على المصرف المركزي نشر المحاضر وفرض عقوبة في حال عدم الالتزام.
ونسينا أنّ الحاكم السابق كان يضغط على شركات التدقيق لإصدار محاضر تناسبه، كما أنّ التعديلات لم تذكر ما هي العقوبة في حال عدم الالتزام بنشر المحاضر.
- إلغاء اللجنة الإستشارية وإنشاء لجنتَين، واستحداث جهاز رقابي جديد في المصرف المركزي، وتعيين مفوّضي مراقبة خارجيّين، والإبقاء على منصب مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي مع تعديل القانون الخاص به.
ونسأل هنا: هل الإكثار من اللجان والمراقبين يضمَن شفافية عمل المصرف المركزي؟ فمَن يُراقِب المُراقَب؟ وما الذي يمنع المُراقِب من السقوط في فخ الرشوة والمنفعة الشخصية؟ وكيف سنؤمّن مراقباً حيادياً إذا كانت التوظيفات في البلد تتمّ عبر محاصصات سياسية طائفية؟ وكيف سيتمكن المُراقِب من القيام بعمله بفعالية من دون تأثير الزعيم أو المسؤول الذي وظّفه؟
للتذكير، لدينا ما يُسمّى «مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان المركزي» ودوره مراقبة أعمال المصرف، وهناك لجنة الرقابة على المصارف وهي لجنة مستقلة عن المصرف المركزي، مهمّتها الرقابة على أداء المصارف والتأكّد من تطبيق القوانين والتدقيق في سلامة القطاع المصرفي، ونتيجة هذه الرقابة كانت سرقة ودائع الناس في عملية احتيالية ضخمة يستحق تعليمها في التاريخ، حرمت الناس من جنى أعمارهم. فما الذي سيتغيّر هذه المرّة؟
في المحّصلة، هذه التعديلات ليست إلّا محاولة يائسة للإيحاء بأنّ الحكومة تقوم بالإصلاحات اللازمة، فيما هي تُعيد تجربة الماضي من دون أي تغيير. بالتالي، فإنّ أيّة تعديلات مطروحة لن تفيد، إذا لم يتمّ إقرار قانون جديد لتحقيق الشفافية المطلقة عامة، وخصوصاً في المصرف المركزي.
ولأنّ الأموال في المصرف المركزي هي ملك الشعب، لا يجوز لأيّة مجموعة أن تتصرّف بها كما حدث سابقاً. كما لا يجوز الحديث عن تعديلات وخلافه، ما لم تتمّ معالجة الأزمة السابقة بكل تفاصيلها، عبر الاطّلاع على حساب كل مصرف على حدة، وإجراء محاسبة شاملة على المرحلة التي سبقت، وإعادة الودائع كاملة لأصحابها.
غير ذلك هو إلهاء مقصود لتمييع المشكلة الرئيسية. ولئلا تعود حليمة إلى عادتها القديمة، نحتاج وبسرعة قصوى إلى تطبيق الشفافية المطلقة في كل ما يختص بالمال العام.
أمّا إذا استمرّت الحكومة بالتغاضي عن حلول أساسية، فيعني أنّها مستمرة بحماية «سرقة العصر»، بالتالي هي مسؤولة مباشرة عنها وسيلاحقها العار ويلاحق كل من سرق وأخفى وتستّر عن هذه الجريمة إلى أجيال عديدة مقبلة.
في سياق آخر، ومع استمرار الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، نرجو أن يتمّسك لبنان بالقرارات الدولية ويُطالب بحقوقه عبر الأمم المتحدة، لأنّ أي اندلاع جديد للمعارك سيأتي لمصلحة نتنياهو وشركائه.