تشير الأحداث الأخيرة إلى سيناريو مقلق: غزة، في غياب سلطة حكومية مركزية، قد تصبح تحت سيطرة أمراء الحرب والجريمة المنظّمة.
عادة ما يؤدّي زمن الحرب إلى ازدهار الأسواق السوداء والعصابات الإجرامية، والصراع في غزة ليس استثناءً. ففي حادث مقلق في تشرين الثاني، نهبَ مسلّحون قافلة مكوّنة من 109 شاحنات مساعدات تابعة للأمم المتحدة. وخلال العام الماضي، أصبح تهريب التبغ مشكلة خاصة بالنسبة إلى قوافل المساعدات الإنسانية، إذ هاجمت عصابات منظّمة شحنات المساعدات بحثاً عن السجائر المهرّبة التي تُباع مقابل 25 إلى 30 دولاراً لكل علبة.
تصرّ القوات الإسرائيلية على القضاء على «حماس»، لكنّها لم تقدّم خطة لما سيحدث بعد انتهاء الصراع. كما أنّ حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضت الدعوات لإدارة غزة من قِبل السلطة الفلسطينية.
كانت «حماس» نظاماً قمعياً استخدم العنف ضدّ شعبه. لكن نظراً لأنّها كانت تدير أيضاً الحكومة المحلية في غزة، فإنّ ضعفها الحالي يهدّد بترك المنطقة من دون مؤسسات حُكم.
تخلق مثل هذه الفراغات في السلطة ظروفاً مثالية لما يُعرف بـ»الحكم الإجرامي»، فتتولّى المافيات الإجرامية، المرتبطة أحياناً بعائلات أو قبائل، الكثير من الأدوار التقليدية للحكومة ضمن أراضيها، ممّا يجعلها تنافس المؤسسات الرسمية الضعيفة. وقد يتطوّر الأمر حتى إلى أمراء الحرب، فتُقسّم الأراضي بين مجموعات مسلّحة إلى إقطاعيات ذاتية الحكم.
من الصعب إزالة مثل هذه الجماعات، وغالباً ما تغذّي دورات طويلة الأمد من العنف في دول مثل هايتي، والصومال، وأفغانستان. ووصف خبراء في الجريمة المنظّمة وأمراء الحرب، نمطاً قاتماً لكنّه حدث متوقع في جميع أنحاء العالم - والمخاطر التي قد تحدث في غزة.
الحرب تخلق أسواقاً سوداء
وأوضح بنجامين تي. سميث، أستاذ في جامعة وارويك في إنكلترا الذي يدرّس تاريخ الجريمة المنظمة: «ببساطة، كل دولة تواجه ظروف الحرب تؤدّي فوراً إلى خلق سوق سوداء، بمجرّد وجود أي نوع من التقنين أو القيود الأخرى».
تغني الأسواق السوداء وتُمكّن الجماعات التي تسيطر عليها، ممّا يعزّز صعود شبكات الجريمة المنظّمة القوية. وفي بعض الحالات - مثل البلقان، وأفغانستان، وصقلية بعد الحرب العالمية الثانية - تتطوّر هذه الشبكات إلى كيانات شبه سياسية.
قد تكون غزة قد بدأت هذه العملية مسبقاً. حتى قبل الصراع الحالي، أدّت القيود الطويلة الأمد التي فرضتها إسرائيل ومصر على الواردات إلى نقص في السلع الأساسية وازدهار السوق السوداء.
ورأى يانيف فولر، محاضر كبير في سياسة الشرق الأوسط في جامعة كنت في إنكلترا، أنّ بعض عشائر غزة، وهي مجموعات عائلية مترابطة بصلات الدم والزواج، كانت منذ فترة طويلة متورّطة بعمق في هذا النوع من التجارة.
وأضاف فولر: «انخرطوا دائماً في اقتصاد التهريب، تهريب البشر، وتهريب المخدرات، لكن أيضاً السلع التي لم يكن يمكن عبورها إلى الحدود مع إسرائيل».
قد يكون بعض الهجمات على القوافل نفّذها أشخاص يائسون يحاولون ببساطة الحصول على الغذاء والضروريات الأخرى. لكنّ الصحافيين فيفيان يي وآرون بوكسرمان أفادا في حزيران، بأنّ العصابات الإجرامية المسلّحة كانت تهاجم القوافل يومياً، فيما أصابع الاتهام دلّت إلى المدنيّين الغزاويّين اليائسين الذين يقومون بعمليات نهب عشوائية.
ومن المرجّح أن تكون العصابات المسلحة التي تهاجم القوافل مرتبطة بعشائر غزة، وفقاً لفولر، الذي أضاف: «أستطيع أن أتخيّل أنّ هناك بقايا من «حماس» أيضاً متورّطة، لكن في الأساس العشائر هي الفاعل الرئيسي».
من ملء الفراغ إلى «الحكم الإجرامي»
في غزة، أسقطت الحملة العسكرية الإسرائيلية حكومة «حماس»، لكن لا توجد إدارة مدنية أو سلطة أخرى لتحلّ محلها. ولأنّ إسرائيل غالباً ما تشنّ غارات على مناطق محدّدة ثم تنسحب، فإنّها تترك فراغاً في السلطة، ممّا يؤدّي إلى انتشار الفوضى والجريمة (وأحياناً عودة «حماس» إلى تلك المناطق).
بالطبع، من الممكن أن تنجو «حماس» من الحرب بقوة كافية لإعادة تأسيس سيطرتها الجزئية على الأقل في غزة. لكن إذا نجحت إسرائيل في تحقيق هدفها بتدمير أو تحييد الجماعة، فإنّه من «الحتمي» أنّ العشائر في غزة ستتدخّل لملء الفراغ الحكومي، كواحدة من القوى المنظمة القليلة المتبقية على الأرض، بحسب فولر. حدث شيء مشابه أثناء الحروب في العراق وسوريا، على رغم من أنّ الكثيرين كانوا يعتقدون أنّ القبائل لم تعُد مؤثرة في تلك البلدان.
وتابع: «القبائل دائماً تقدّم خدمات أمنية، وهي تفعل ذلك ليس فقط لحماية نفسها، لكن أيضاً لأنّها توفّر لها فرصاً مالية. إنّها استجابة طبيعية جداً لانهيار السلطات المركزية».
بالطبع، يمكن أن تكون هذه الجماعات أكثر إنسانية من «حماس». لكنّ الأبحاث تشير إلى أنّ هناك تكاليف لوجستية واقتصادية مرتفعة للحكم المجزّأ وغير الرسمي.
وقد اقترحت الحكومة الإسرائيلية في الماضي أن تتولّى العشائر رسمياً الحكم - وهي خطة رفضتها العشائر نفسها رفضاً قاطعاً. لكنّ هذا الرفض الرسمي قد لا يمنع العشائر وجماعات أخرى من ممارسة السلطة المحلية بحكم الأمر الواقع بعد الحرب.
وترى فاندا فيلباب-براون، خبيرة في الجماعات المسلحة غير الحكومية في معهد بروكينغز: «الطريقة التي تُحقق بها السلطة هي امتلاك الأسلحة، لكن أيضاً توزيع المساعدات على السكان، الذين بالطبع يعانون الجوع في ظروف مروّعة».
عدم الاستقرار على المدى الطويل
تُعدّ غزة منطقة صغيرة جداً مقارنةً بدول مثل هايتي، أو الصومال، أو أفغانستان. كما أنّ حدودها تخضع إلى سيطرة مشدّدة من الخارج من قِبل إسرائيل ومصر، وكلاهما لديه مصلحة قوية في ضمان أنّ الوضع داخل غزة لا يُصبح فوضوياً لدرجة تهدّد أمن جيرانها - وهو في النهاية السبب الذي بدأت من أجله هذه الحرب.
لكن كلما طالت فترة بقاء غزة من دون إدارة مدنية، زادت فرصة الجماعات المسلّحة الصغيرة لاكتساب القوة - وأصبح من الصعب إزاحتها. ويرى فولر: «بمجرّد أن تسيطر هذه العشائر أو هذه المنظمات بالفعل على المنطقة، يصبح من الصعب جداً أن تأتي إليهم وتقول: «انظروا، قمتم بدوركم، والآن حان الوقت لنا للعودة».
في العديد من أنحاء العالم، أدّت مثل هذه الحالات إلى نوع من النظام الهجين، إذ تمارس السلطات الحكومية الرسمية بعض السيطرة على المستوى الوطني، بينما تمارس العصابات السيطرة اليومية على أراضيها المحلية.
وأظهرت كارتيلات المخدّرات في المكسيك، والجماعات شبه العسكرية في أيرلندا الشمالية، والعصابات في أميركا الوسطى مثل MS-13، أنّ هذا النموذج يمكن أن يكون مرناً ومربحاً للمجموعات المسلّحة المعنية. لكن بالنسبة إلى المواطنين العاديّين، يعني ذلك العيش في نظام عنيف واستبدادي، حيث تعتمد سلامتهم ومعيشتهم على أهواء الرجال المسلّحين.
خيار آخر، تشير إليه التجارب التاريخية، هو دمج الجماعات المسلحة في حكومة مستقبلية. هذا ليس حلاً سحرياً: فقد يعني أنّ الجماعات الإجرامية المنظّمة تستمر، غالباً في تحالف مع الأحزاب السياسية أو المسؤولين الحكوميّين، ممّا يجعلها تستغل الجمهور. لكن هذا يسمح بانتقال إلى حكم وقت السلم وبعض المركزية للسلطة الرسمية.
وأشارت فيلباب-براون إلى أنّ «البلقان مثال رئيسي. في صربيا، كرواتيا، والبوسنة والهرسك، غالباً ما كان تشكيل الأحزاب السياسية وتشكيل القادة الأقوياء لهما روابط عميقة مع شبكات التهريب في أواخر التسعينات».
لكن إذا لم يكن هناك حكومة مركزية، أو كانت الحكومة الموجودة ضعيفة جداً لفرض السيطرة، فقد تكون النتائج أسوأ بكثير.
ذلك السيناريو الأسوأ يحدث حالياً في هايتي، حيث أصبحت الجماعات المسلحة التي بدأت كعصابات إجرامية صغيرة غالباً مرتبطة بسياسيّين مختلفين، قوية جداً، لدرجة أنّها طغت على حكومة البلاد، ممّا جعل المواطنين العاديّين يعيشون تحت حكم السلاح.
وتابعت فيلباب-براون: «اليوم، أصبحت العصابات الكبيرة في هايتي كلها تحمل طابعاً سياسياً. لم تعد فقط خاضعة إلى السياسيّين، بل غالباً ما تحاول إملاء الأمور على السياسيّين الهايتيّين».
هايتي هي أسوأ سيناريو ممكن. لكن مع استمرار السؤال حول ما سيحدث في «اليوم التالي» في غزة من دون إجابة، تقدّم تذكرة مخيفة بأنّه حتى النجاح في هزيمة «حماس»، من دون وجود خطة لما سيحلّ محلها، يمكن أن يكون مصدر أزمات مستقبلية.