اليوم... وأكثر من أي وقت مضى يشعر اللبنانيّون أفراداً وجماعاتٍ أنّهم فاقدون للحماية ومكشوفون. هم يشبهون إنساناً تائهاً في الصحراء، يمشي عاري الرأس، حافي القدمَين.
الحماية المفقودة ليست وليدة الساعة، فقد تجمّعت عناصرها بالتراكم الزمني لكنّها بدَت كصخرةٍ رُمِيَت في وجه اللبنانيِّين دفعةً واحدة:
1 ـ انخراط في حربٍ مع العدو إسناداً لغزة، أظهرت منذ تفجير أجهزة "البايجر" تفوّقاً لمصلحته في قوّة النيران والتكنولوجيا العسكرية والاستخباراتية، ممّا أسقط كثيراً من عناصر معادلة الردع التي حمت لبنان لسنوات وساهمت في ترسيم الحدود البحرية. وكلّفتنا هذه الحرب شهداءً وضحايا ودماراً في قرانا والمدن.
2 ـ جمهوريةٌ بلا رأس تتهاوى، ومؤسساتٌ دستورية وإدارات تتحلّل وحكومةٌ مستقيلة مبتورة عاجزة عن القرار.
3 ـ انهيارٌ مالي تسبّب به نهج من الفساد السياسي والإداري، غطّته ومارسته منظومةٌ سياسية حكمت، وشاركها موظّفون كبار في الإدارة والأمن والقرار المالي على مدى عقود.
4 ـ قضاءٌ معتَكِف بمعظمه، رهنت السلطة السياسية قراره، فلم يقبض يوماً على فاسد ولم يُحاكم مجرماً، لا في انفجار ولا في اغتيال، ولا في سرقة ودائع.
هذا هو "لبنان الحماية المفقودة " والمطلوب منّا استعادتها. فُقدان الحماية رافق الجمهورية منذ ولادتها في العام 1943، وهو الذي دفع بأحزاب الطوائف في سبعينات القرن الماضي، إلى التسلُّح، فأسّست ميليشيات كانت نتيجتها التحكّم أولاً بالطوائف نفسها.
بدأ فقدان الحماية، يوم ارتكبت ميليشيات الصهاينة في العام 1948 جريمة احتلال فلسطين وهجّرت قسماً من أهلها إلى جمهورية لبنان حديثة التكوين.
تسلّح اللاجئون الفلسطينيّون مستفيدين من تناقضات الداخل ومَدعومين بمصالح الخارج، ولم تنحصر وظيفة سلاحهم بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل تحوّلت مع الأيام وتواتر الأحداث إلى أداة متدخّلة ومؤثّرة في نزاعات لبنان الداخلية، وخصوصاً بعد عام 1969 واتفاقه المشؤوم في القاهرة.
تنامى نفوذ الميليشيات الفلسطينية وأدّى الإنقسام السياسي اللبناني حول دورها وشرعية عملها الفدائي إلى شلّ القرار السياسي ـ العسكري، ولاحقاً انقسام الجيش الذي فُقِدت الثقة بقدرته على حماية الأرض والشعب، بالتالي سقطت وحدانية حصر السلاح بالدولة العاجزة، خصوصاً بعد اصطدام الجيش بالفلسطينيِّين عام 1973.
لم يطل الزمن حتى اشتعلت بين ميليشيات أحزاب الطوائف حرب، كانت أسبابها المتنوّعة قد تجمّعت وكأنّها في انتظار شرارة جاءت في 13 نيسان 1975.
مع السنين، تحوّلت الحرب حروباً، تعدَّدت أهدافها وهويّاتها وعناوينها، فوقع الخراب على الجميع وحَلَّ مجدداً زمن الحماية المفقودة، على رغم من كثرة الشعارات التي رفعها المتقاتلون عن قدسيَّة قضاياهم. جميع المتقاتلين استضعفوا الدولة، فعمّقوا فقدان الثقة بها، لكنّهم لم يوفّروا الحماية للناس فسادت الفوضى وتسيّب الأمن واستُبيحت السيادة والحدود وانكشف زيف المعادلة الفاشلة: "قوة لبنان في ضعفه".
تسلّح الخائفون على وجودهم فازداد خوفهم بعضهم من بعض، وازداد شعورهم بفقدان الحماية. انتشرت الأسلحة بين الناس بذريعة "الأمن الذاتي" فسقطت السلطة المركزية ومعها الدولة.
سقوط الدولة بدأ من الجنوب، حين تُرك أهله لمصيرهم يواجهون عدوان إسرائيل وهيمنة السلاح الفلسطيني، فتشكّلت تباعاً وعلى إيقاع موازين القوى في الداخل وفي الإقليم المنظمات المسلّحة بولاءاتها المتعدّدة للخارج.
انخرط الجنوبيّون في المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، التي باتت منذ العام 1985 محصورة بـ"حزب الله"، انعكاساً لميزان القوى الذي نشأ بعد الثورة الإسلامية في إيران. خاضت هذه المقاومة حروباً كان أبرزها العام 2006 حين فرضت معادلة ردع استمرّت حتى أيلول الماضي.
أمّا وقد حصل ما حصل في "أيلولنا الأسود"، أي بعد عام على "طوفان الأقصى" وجرائم اسرائيل، فإنّ الحماية المفقودة مجدداً باتَ الحصول عليها يحتاج إلى بحث صريح بين اللبنانيِّين لإنتاج معادلة رَدع جديدة.
معادلة اسمها في وضوح الدولة. نعم الدولة، التي أسقطناها بأيدينا، أحزاباً وطوائف، واكتشفنا بفقدانها اليوم حجم حاجتنا إليها.
لا حماية لنا خارج هذه الدولة، فهي الوحيدة، القادرة باتفاقنا وإرادتنا على أن تحمينا وإلّا أصبحنا شعباً يتيماً وأرضاً سائبة. الدولة الحامية هي التي تحيّد نفسها طوعاً عن نزاعات ليست لها أي منفعة منها، وتلتزم فقط بما يُجمع عليه العرب في شأن فلسطين.
فإلى أيِّ مدى بات اللبنانيون جاهزين لتحييد بلادهم عن نزاعات الخارج بمقدار ما يستطيعون؟ وإلى أي مدى باتوا مستعدّين للتنازل عن خطيئة الأمن الذاتي لمصلحة الدولة الحامية؟ وهل اقتنعوا بأنّ الحماية المفقودة ليست فقط في الأمن وفي القدرة على مواجهة إسرائيل والإرهاب؟ هل أدركوا أنّها مترابطة كالسلسال، إذا انكسرت منه حلقة سقطت حلقاته كلها؟
لقد انفرط عقد الحماية، من الاقتصاد إلى الأمن، إلى حقوق المواطن، في الحرّيات والصحة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي، وصولاً إلى سقوط حماية الودائع وجَنى العُمر.
أضحى اللبنانيّون ضحايا الحماية المفقودة في كلّ المجالات وقد دفعوا ثمنها غالياً، والأكيد أنّها لن تعود إلّا بالعودة إلى الدولة وبلا مكابرة. الحماية المفقودة هي في جوهرها ثقة مفقودة بين اللبنانيِّين. بين الذين علّمتهم التجربة ألّا يؤمّنوا إلّا لسلاحهم، والذين ما عادوا يجدون الأمان مع هذا السلاح.
من البديهي ألّا يكون على أرض أي دولة سوى سلاحها الشرعي الذي عليه أن يحمي شعبه من أي عدوان أو تسلّط. والحق يُقال إنّ هذا ما افتقده اللبنانيّون، خصوصاً في الجنوب على مدى عقودٍ، بسبب تخلّي الدولة عن دورها.
صحيحٌ أنّ السلاح يجب أن يكون تحت سلطة الدولة وفي يد الجيش، لكنّ الناس تريد ضمانات لأمنها، فالعدو لا يميّز بين مدني ومسلّح وهو يقتل الجميع ويدمّر الأرزاق. مسؤوليّتنا أن نبني الدولة، ومسؤولية الدولة أن تحمي الناس من العدوان، ليس فقط بتسليح الجيش بل أيضاً بتأمين الحماية السياسية للبلاد في عالم يزداد نزاعات وتشابكاً.
مع التسليم اليوم بضرورة إيجاد معادلة ردع وطنية جديدة محصورة بالدولة، لا تستوي المطالبة بالتخلّي عن السلاح من دون تأمين البديل الفعّال، وإلّا نكون كمن يبحث في النتيجة بدل من أن يبحث في السبب. وحده تسليح الجيش يُسقط مبرّر تأبيد السلاح خارج الدولة، فالمطلوب هو الحصول على ضمانات بوقف العدوان وبتسليح فعلي للجيش يردع المعتدي، وكل ما دون ذلك هو تسليم بفقدان الحماية.
إنّ تصوير سلاح المقاومة كأنّه أساس المشكلة أو سبب فقدان الحماية، هو افتراء على الحقيقة وتبسيط لمشكلة متشعّبة التعقيد. لذا يقتضي الحلّ تصويبَ النقاش بإعادة طرحِ المعضلة بعمقها، وهي تتلخّص بالسؤال: هل يريد اللبنانيّون الاتفاق على حماية وطنهم، وما هي قدرتهم على توفير الحماية له أرضاً وشعباً، حدوداً وحقوقاً وثروات؟ هل يقتنعون بأنّهم متى اتفقوا على عناصر الحماية الوطنية المطلوبة، فإنّ السلاح الموجود خارج قرار الدولة يتحوّل تحت سلطتها الحصرية عنصر قوة لكل لبنان؟
إنّ جميع الأحزاب والقوى السياسيَّة مدعوة للإجابة في وضوح عن الأسئلة الضاغطة ومن أبرزها: كيف نحمي حدود لبنان شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً بحراً وبرّاً وجوّاً؟ كيف نضمن أمن المجتمع وأمن المواطن ـ الفرد، وحقوقه، وكيف نحقِّق له العدالة ونجعل قوَّة الحقّ في لبنان تسود على حقّ القوة؟ كيف نجعل من الاستراتيجية الدفاعية للدولة انجازاً وطنياً جامعاً، فلا يستخدمها البعض وسيلة للاحتفاظ بسلاحٍ يغلّب فئة على سواها، ولا يستغلّها البعض ذريعةً لضرب فئة من اللبنانيِّين؟
حان الوقت ليدرك اللبنانيّون أنّ حمايتهم تبدأ بوعي الأخطار وبجعل الأمن معادلةً لبنانية، لا ميزان قوة في ما بينهم.
هكذا يصبح عنوان الحوار المطلوب، "استعادة الحماية المفقودة" وليس فقط نزع السلاح من دون بديل. الأساس هو في أن تتوافر الإرادة وتَصدُق النيات لبناء الحماية الوطنية، وأن نتذكّر دائماً أنّ أقوى استراتيجية دفاعية تسقط عندما ينخر الفساد جسم الدولة ويجعل منها متسوّلاً للمال والأمن على رصيف مصالح الدول.
مطلوبٌ من اللبنانيّين أن ينتقلوا من البحث في الأزمة إلى البحث عن الحلول في إطار الجمهورية التي على رغم من انهيار مؤسساتها، لا تزال تمتلك الهياكل الدستورية وتنتظر نفخ الروح فيها لتستعيد الحياة. وقد حان موعد الخروج من دوامة استنزاف الذات: وقف النار أولاً أم رئاسة الجمهورية؟
لا تناقض أصلاً بين هاتَين الحاجتَين وهذَين المطلبَين، فاستقرار الوضع يتطلّب بدايةً الالتزام الكامل والصارم بالقرار 1701، وتنفيذه من الجانبَين اللبناني والإسرائيلي، فعلاً لا قولاً.
حان الوقت أن نسلك درب الخيارات الوطنية الناجحة، فلا قيام للدولة بمراهنات أحد على قوة الخارج لرسم توازنات الداخل. حان الوقت أن ندرك أن لا حماية لأحد خارج الجمهورية التي تنتظر انتخاب رئيسها.
إنّ اللبنانيّين جميعاً مدعوّون من خلال قياداتهم، الى التلاقي والحوار والتفاهم، حول سلّة متكاملة تعيد للبنان الحماية المفقودة في السياسة والاقتصاد والأمن الاستراتيجي، لضمان استدامة الأمان والاستقرار. ومن هنا نبدأ.