أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية
غالب الظن عند بعض اللبنانيين، أن هناك لحظات يمكن فيها الإنقلاب على واقع الحال، إذ إنّهم أصبحوا فجأة راغبين بإلحاح في انتخاب رئيس للجمهورية، ووضعوا له مواصفات محدّدة، وكذلك المهمات التي سيقوم بها، بدءًا من القرار1559، إلى أقصى أمنياتهم.
إنّ مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، وعلى إلحاحيتها، ينبغي أن يُنظر إليها من زاوية حفظ الودّ مع المشمولين بالحرب» وهم جميع اللبنانيين، على اختلاف توجّهاتهم ومناطقهم»، والمساهمة في الضغط على من يعتبرونهم أصدقاء خارجيين للعمل على وقف لإطلاق النار. هذه هي الفكرة والمسألة الأولى التي يجب أن يجيدها هؤلاء، قبل كل شيء، «لا أن يظنوا، أنّ الوقت ملائم للإنقلاب». أليست هذه هي لحظة الشراكة الوطنية؟
إنّ الشطارة السياسية التي يمارسها البعض، راهناً (المتصل والمتواصل مع ما سلف) لا تستمد معناها الإشتقاقي والدلالي إلّا من شطر الناس، وتوريعهم، لا وهم عندنا أن ما يحصل هو هدر سياسي، وثقافي، مهمّته إيجاد الشرخ بين الناس وشطرهم، وهو أخطر ما أصاب اللبنانيين في حياتهم، في وقت ما زال العدوان متواصًلًا على لبنان وسيادته.
فلماذا تستبقون الوقائع بالأوهام؟؟؟، في حياة الشعوب تسود أوهام، وهذا أمر طبيعي، لكن الشعوب تقيّد هذه الأوهام، ولا تتركها تتفلّت، فإذا كان لدى البعض أوهام القطع مع الماضي والمستقبل، والعودة إلى زمن مضى وولّى («1982»)، مراهنًا على هزيمة المقاومة، أو قام باندفاعة إنقلابية، محاولًا العبور إلى مرحلة جنونية، يظنها مؤاتية، فإنّ ذلك يُعتبر نكبة في الوطنية والسيادية.
بعد توضيح هذا اللبس العام، نتساءل عن إمكانية استحضار عقلانية سياسية تضبط هؤلاء الانقلابيين، بعد فشلهم في تجميع أنفسهم يوم السبت بتاريخ
12-10-2024، خصوصًا أنّ الإمكان ما زال متاحًا أمامهم لمراجعة ظنونهم وأوهامهم، وهذه مسألة أخلاقية وإنسانية ووطنية.
صحيحٌ أنّ العدو الإسرائيلي، يقصف ويدمّر ويغتال، وقد نجح في الوصول إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وأركان حزبه، وافتعل المجازر ولا يزال، لكنه ومنذ إعلانه عن بدء المناورة البريةّ يبدو عاجزاً في المنازلة المباشرة، أمام المقاومة، وهذا مؤشر مهم، يدلّ إلى أنّ الميدان مختلف بوقائعه عن المعلن إسرائيليًا، والمأخوذ به عربيًا ومحليًا من البعض، وأنّ هذا الميدان بوقائعه، بمقدار ما يطمئن المجتمع اللبناني والقيادة السياسية المقاومة، يوجّه رسالة إلى البعض الذي ما زلنا نريده شريكًا وطنيًا، بأنّ الإسرائيلي لن يتمكّن من تحقيق أهدافه، وأنّ على العقل الوطني أن يكون هو الحاضر في هذه المعركة لا غير.
ثمّ، إنّ ما يجري على بعض وسائل الإعلام المحلية، وفي بعض الردهات، والصالونات، والجلسات، وبمواقعه، له معنى عميق، يؤثر سلبًا على الثقة، ويؤشر إلى ضعف أو انعدام للحس بالمسؤولية الوطنية، والشراكة والإلتزام الوطني، ولعله يجب أن نلفت نظر هؤلاء الجالسين في الردهات أو وراء المنابر أو على الشاشة الفضية الملونة، إلى أنّ هذه المواقف والخطابات التي نسمعها وتصل إلينا كمواطنين لبنانيين، على اختلاف طوائفنا، ومناطقنا، تدلنا إلى أنّ هناك وظيفة سياسية بليدة يقوم بها هؤلاء. وهي بنسبة كبيرة غير ناجعة، وهم يمارسون من خلالها جنوناً سياسياً، متلازمًا مع هبوط ثقافي، فردي ـ جماعي، يعبّر عن انفصام «في الشخصية اللبنانية»، وهم بكل ما يتفوهون به باتوا وكأنّهم يكشفون عن إخراج قيدهم» .
وهنا نفترض أنّ الأخلاقية الدينية «المسيحية ـ الإسلامية» هي إلى حدّ بعيد أخلاقية سامية مشتركة، كنا في كتابات سابقة قد دعونا الخطاب السياسي والديني إلى الأخذ بها، وأن يتحوّل خطاباً إنسانياً، ينظر إلى الواقع من خلال القيم الإنسانية، او يتعامل معه على هذا الأساس. فلتكن الدعوة مجددًا، إلى أصحاب المواقف والمخاطبات، والسقوف العالية، بالعودة إلى القيم الإنسانية التي تجمعنا، بالعودة إلى قيم الأخلاق السامية، أو لتكن هواجسهم مشتركة مع مواطنيهم ،وأن ينتقلوا من الوهم والظن، إلى المسؤولية الوطنية والشراكة، والإلتزام الوطني.
فلقد جَبَّ* القرار الدولي 1701، حين صدوره كل القرارات الأخرى ذات الصلة بلبنان، ولا سيما منها القرار 1559، وما الإشارة الى هذا القرار التي جاءت في فذلكة القرار 1701، إلّا إشارة واضحة إلى فعل الجَبّ هذا. ثمّ إننا أيها اللبنانيون السياديون، أصبحنا في القرن الواحد والعشرين وعلى مشارف نهاية الربع الأول منه، ولم يعد من توافق بين دهرنا هذا ودهر 1982، «هل أتى على الإنسان حين من الدهر..؟». وبات الواقع المعاش مختلفًا.
إذا لم تعلّمنا التجربة من الدهر الماضي (1982) وما تلاه، فما الذي سوف يعلّمنا؟؟
صفوة القول: إنّ أوسع المسارح الاجتماعية والثقافية في البلدان هو المسرح السياسي، فليكن اللاعبون على هذا المسرح على قدر المسؤولية الوطنية، التي تعطيهم القيمة السياسية، وليس الإنقلاب بلا خجل هو الذي يعطي هذه القيمة.