تعدّ حرّية الإعلام وحماية الصحفيين من الركائز الأساسية في أي مجتمع ديموقراطي، وتكتسب أهمية مضاعفة خلال أوقات الحروب والنزاعات المسلحة. فالصحافة تلعب دوراً محورياً في توثيق الحقائق ونقل المعلومات للعالم الخارجي، ما يجعل الصحفيين عرضةً لمخاطر جسيمة قد تصل إلى التهديد بالموت والاعتقال التعسفي. في الوقت ذاته، تزداد أهمية ضمان حماية حرّية الإعلام لتمكين الشعوب من الوصول إلى الحقائق غير المشوهة، لا سيّما خلال النزاعات التي تتعرّض فيها الحقوق الأساسية للانتهاك.
أولاً: الحماية القانونية للصحافيين في أوقات النزاعات المسلحة
تعترف القوانين الدولية والإقليمية بأهمية حماية الصحافيين، وتوفّر لهم الحماية من الأذى أو الاعتداءات أثناء أداء واجباتهم المهنية. يُعتبر القانون الدولي الإنساني واحداً من أهم المصادر التي تكفل هذه الحماية، حيث تنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 على ضرورة حماية المدنيين، بمن فيهم الصحفيون، خلال النزاعات المسلحة.
تنص المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) بوضوح على أنّ «الصحافيين الذين يقومون بمهمات مهنية خطيرة في مناطق النزاع المسلّح يجب اعتبارهم أشخاصاً مدنيين» ويحظون بالحماية التي توّفرها القوانين الدولية للمدنيين، إلّا إذا شاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية.
إضافة إلى ذلك، تنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) على أنّ «لكل شخص الحق في حرّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرّية اعتناق الآراء دون تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت ودون تقيّد بالحدود الجغرافية».
ثانياً: الأطر القانونية الدولية لحماية الصحافيين
إلى جانب القانون الدولي الإنساني، توجد العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تهدف إلى تعزيز حماية الصحافيين وحرّية الإعلام. من أبرز هذه المواثيق:
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966): ينص هذا العهد في المادة 19 على حرّية التعبير باعتبارها حقاً أساسياً، حيث تضمن «لكلّ إنسان الحق في اعتناق الآراء دون مضايقة»، كما أنّ «لكلّ إنسان الحق في حرّية التعبير».
قرار مجلس الأمن رقم 1738 (2006): هذا القرار هو أحد الإنجازات القانونية التي ترّكز على حماية الصحافيين في النزاعات المسلحة. ينص القرار على أنّ الصحافيين، وغيرهم من العاملين في الإعلام، يجب أن يحظوا بنفس الحماية التي توفرها القوانين الدولية للمدنيين خلال النزاعات.
اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية: كما ذُكر سابقاً، تحظى الصحافة بحماية خاصة في إطار اتفاقيات جنيف، حيث يتمّ تصنيف الصحافيين كمدنيين، ما لم يشاركوا في القتال بشكل مباشر.
ثالثاً: الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحافيون خلال الحروب
رغم وجود هذه الأطر القانونية، إلّا أنّ الصحافيين يظلون عرضةً لعدد كبير من الانتهاكات خلال النزاعات المسلّحة. تشمل هذه الانتهاكات القتل المستهدف، الاختطاف، الاعتقال التعسفي، والتعذيب. بحسب تقرير لجنة حماية الصحافيين لعام 2023، قُتل ما لا يقلّ عن 42 صحفياً حول العالم خلال تأدية مهامهم في عام 2022، وكان جزء كبير منهم يعمل في مناطق النزاعات المسلحة.
• أمثلة على الانتهاكات:
الحرب في سوريا: منذ بداية النزاع السوري في عام 2011، تعرّض العديد من الصحافيين للاعتقال أو الاختطاف أو القتل على يد الأطراف المتحاربة، سواء من قبل النظام السوري أو الجماعات المسلحة المختلفة مثل «داعش». على سبيل المثال، قُتل الصحفي الأميركي جيمس فولي بعد اختطافه واحتجازه من قبل «داعش»، وهو مثال بارز على المخاطر التي يواجهها الصحفيون في الحروب.
الحرب في أوكرانيا: خلال الحرب الروسية الأوكرانية، تعرّض العديد من الصحافيين المحليين والدوليين للقتل والاعتقال. كانت هناك تقارير عن استهداف القوات الروسية للصحفيين، مثل مقتل الصحفي الأوكراني أولكسندر مارسينكو في قصف استهدف مواقع مدنية في آذار 2022.
النزاع في اليمن: يُعدّ اليمن أحد أخطر الأماكن على الصحافيين، حيث يتعرّضون لانتهاكات واسعة تشمل الاعتقال والقتل. في عام 2021، أُعدم أربعة صحفيين يمنيين بعد محاكمتهم من قبل جماعة الحوثيين بتهم تتعلق بالتجسس، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية.
رابعاً: أهمية حرّية الإعلام خلال النزاعات
في أوقات الحروب، تلعب حرية الإعلام دوراً حيوياً في توثيق الانتهاكات ونقل الصورة الحقيقية للأحداث على الأرض. تساعد وسائل الإعلام المستقلة والموثوقة في كشف الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتنازعة، كما توفّر للعالم الخارجي معلومات دقيقة حول ما يحدث.
يُعدّ الإعلام الحرّ أداة مهمّة في مواجهة الأخبار المزيفة والدعاية التي غالباً ما تستخدمها الأطراف المتحاربة. فالأطراف المتورطة في النزاعات غالباً ما تسعى إلى التحكّم في الرواية العامة للأحداث عن طريق التضليل الإعلامي. في هذا السياق، يكون دور الصحافيين في تقديم التقارير الدقيقة والمستقلة أمراً بالغ الأهمية.
خامساً: دور المنظمات الدولية والمحلية في حماية الصحافيين
توجد العديد من المنظمات الدولية والمحلية التي تعمل على حماية الصحافيين والدفاع عن حرّية الإعلام خلال النزاعات. بعض هذه المنظمات تشمل:
لجنة حماية الصحافيين (CPJ): تعمل هذه اللجنة على توثيق الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحفيون حول العالم، وتقديم الدعم القانوني والمعنوي للصحفيين الذين يواجهون المخاطر.
مراسلون بلا حدود (RSF): تُعنى هذه المنظمة بمراقبة حرّية الإعلام وتوفير الحماية للصحفيين المعرّضين للخطر. كما تعمل على تعزيز قوانين حماية الصحافيين على المستويات الوطنية والدولية.
مكتب الأمم المتحدة لحماية الصحافيين: يعمل هذا المكتب على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بحماية الصحافيين وتقديم المشورة للحكومات حول كيفية تحسين حماية الإعلاميين خلال النزاعات.
سادساً: التحدّيات التي تواجه حماية الصحافيين
رغم الأطر القانونية والمبادرات الدولية لحماية الصحافيين، إلّا أنّ التحدّيات تبقى قائمة. من أبرز هذه التحدّيات: الافتقار إلى المحاسبة: نادراً ما تتمّ محاسبة مرتكبي الجرائم ضدّ الصحافيين، سواء من الحكومات أو الجماعات المسلحة. يساهم الإفلات من العقاب في تزايد الانتهاكات ضدّ الصحافيين.
الضغوط السياسية: في بعض النزاعات، تسعى الحكومات إلى إسكات وسائل الإعلام من خلال الضغوط السياسية أو القمع المباشر، مما يعرقل الصحافيين عن أداء عملهم بحرّية.
الصعوبات اللوجستية: قد تكون مناطق النزاع صعبة الوصول بسبب خطورة الوضع الأمني أو القيود المفروضة على الحركة، مما يحدّ من قدرة الصحافيين على نقل الحقائق.
تلعب حرّية الإعلام وحماية الصحافيين دوراً بالغ الأهمية خلال الحروب والنزاعات المسلحة، إذ يمكنهم توثيق الجرائم والانتهاكات ونقل الحقائق للعالم الخارجي. ورغم وجود أطر قانونية قوية لحماية الصحافيين، إلّا أنّ التحدّيات الواقعية التي تواجهها وسائل الإعلام تجعل من الضروري تعزيز هذه الحماية وتفعيل آليات المحاسبة لضمان حقوق الصحافيين وسلامتهم في مناطق النزاع.