إسرائيل فريسة خطيئتها الأصلية!
أنطوان قسطنطين
Wednesday, 09-Oct-2024 06:03

من المبكر البحث عن هوية وأهداف مَن خطّط للإنقلاب الكبير الحاصل منذ سنة في مشهد الشرق الممتد من شواطئ غزة ولبنان إلى اليمن وإيران.

بالشكل قد يكون 7 أكتوبر خطأً أعطى ذريعة لإسرائيل، لكنّ الأكيد أنّه قبل «طوفان الأقصى» تمّ تناسي فلسطين، وتركّز النقاش على الإبراهيمية الاقتصادية وخطوط التجارة المتنافسة باتجاه الصين أو الهند. لم يَعُد لقضية فلسطين مكان في الإعلام، لا بل ظنّ كثيرون أنّها صفحة طُوِيَت إثر توقف عملية السلام الفعلية بعد استبدالها بسلام المصالح الذي يتجاهل الحقيقة والحقوق.

 

بعد سنة من الحرب على غزة الصامدة والمدمّرة، المقاومة والمقتولة، عادت قضية فلسطين إلى حيزّ الوجود.

 

سنة من حرب ظهرت خلالها إسرائيل على حقيقتها، كمجتمع تقوده الأسطورة وتعسكره التكنولوجيا، يشنّ حروباً مدّمرة للتوسع والاستعمار بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن حماته، يحتل الأرض، يُبيد المدنيِّين، يحرق الأخضر، يتصرّف بعنصرية إلغائيّة، ويفلت من العقاب.

 

لكن هذه المرّة لم تخرج إسرائيل ولن تخرج سالمة من ارتكابها للجريمة. فالعدالة الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة اتهمتها بأنّها دولة احتلال تمارس القتل، وشعوب العالم كسرت حاجز الخوف من تهمة اللاسامية التي ولّدت لديها ترهيباً فكرياً. تجرّأ المتظاهرون فوصفوا الكيان بأنّه نازي، وتناسلت الاحتجاحات في شوارع أميركا وأوروبا وجامعاتها، من حيث لطالما استمدّ الكيان قوّته.

 

سنة فضحت أيضاً حجم المصالح التي تحكم سلوك الدول، فاصطفّ الحلف الأطلسي الغربي إلى جانب إسرائيل، وأغدق عليها أسلحة الدمار ومنحها المال وغطّاها بالإعلام لتجميل صورة بشعة كشفتها الحرب.

 

وعلى الرغم من وقفات إستثنائية للأمين العام للأمم المتحدة، كشفت تطوّرات «طوفان الأقصى» هشاشة المؤسسات الدولية، فمجلس الأمن عجز عن تنفيذ مقرّراته، مؤكّداً المؤكّد بأنّه في لحظة الصراع يخضع إلى قاعدة موازين القوى. وثَبُتَ تكراراً أنّ الشعوب تحميها قوّتها الذاتية لا المواثيق ولا القوانين ولا أدبيات حقوق الإنسان.

 

سنة من حرب «طوفان الأقصى» أدخلت الشرق والعالم في حروب مفتوحة، أكملت صورة الصراع الدولي الممتد من أوكرانيا إلى بحر الصين.

 

ربما كان فتح جبهة الإسناد خطأً قاتلاً بنظر البعض. لكن هل كان للبنان أو لـ»حزب الله» بعد 7 أكتوبر أن ينجو من ضربة إسرائيلية حتى لو يقم بفتح جبهة الإسناد؟ ألم يكن انتقام إسرائيل لهزيمتها مقرّراً منذ عام 2006، وها هي الضفة الغربية لم تنتصر لغزّة الجريحة، ومع ذلك أخذت نصيبها من الإجرام.

 

أمّا وقد وجد لبنان نفسه في قلب المعركة تحت عنوان الإسناد والإشغال، فقد أصابه ما أصاب غزة من دمار أفرغه حقد نتنياهو قصفاً واغتيالاً.

 

صحيح أنّ الصمود برّاً يفوق التوقعات، ومن واجب المقاومين أن يمنعوا أي احتلال للأرض، لكنّ المقاومة بقيادتها وبيئتها الحاضنة دفعت أغلى الأثمان، حين أدار نتنياهو آلة القتل، فاغتال بالتكنولوجيا والاستخبارات، ودمّر بالصواريخ والقنابل في الجنوب والضاحية والبقاع، ونفّذ جريمة تهجير لا سابق لها.

 

في السياسة، ازداد لبنان انقساماً حول سلاح المقاومة والانخراط في حرب غزة، لكنّه أظهر تضامناً إنسانياً ومواطنياً. خسائرنا البشرية موجعة، وخسائرنا الإقتصادية تُضاف إلى انهيار يتعمّق منذ 2019 في دولة مفكّكة ومكشوفة بلا رأس. أمّا ارتباط الحزب بإيران، فازداد النقاش فيه حدّة وربما تطرّفاً، متجاوزاً فرضية خلاص لبنان لو تمّ اعتماد استراتيجية دفاعية.

 

لم ينفع الإعتراض على وحدة الساحات، التي على الرغم من كل شيء، أثبتت أنّها موجودة لكنّها محصورة بصواريخ اليمن البعيد أو مسيّرات العراق المتقطّعة، وغابت عنها دول الطَوق من مصر إلى الأردن فسوريا، ولكلّ منها أسبابها.

 

لم تنتهِ الحرب بعد، لا بل هي في مرحلة التوسع إلى ما لا ندركه، لكنّ الثابت أنّه مهما بلغت قوة إسرائيل تبقى مستمدة من قوة الولايات المتحدة، وهي لن تحميها إلى الأبد.

 

باختصار، لن تقتلع إسرائيل جميع أهل الأرض لا في فلسطين ولا في لبنان، ولن يصبح أبناء الأرض هنوداً حمراً كالذين أبادتهم حروب الإستعمار الأوروبي في القارة المكتشفة.

 

يعرف حكّام إسرائيل أنّ دولتهم أُنشئت بالقوة، غير أنّهم بدل أن يعملوا على مدى ثمانين عاماً لضمان وجودها وتشريعه بالانتماء إلى هذه المنطقة وإقامة السلام مع شعوبها والانخراط في بيئتها والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، قرّروا معاداتها ظنّاً منهم أنّ الناشئ بوعد استعماري قادر على البقاء بتفوق قوة النار والتكنولوجيا والدولار.

 

صحيح أنّ القوة تفرض استسلاماً، لكنّها حكماً لا تصنع سلاماً. السلام يصنعه فقط إحقاق العدالة والاحترام بين الشعوب المتجاورة.

 

غداً، في اليوم التالي للحرب، سيكتشف سكان إسرائيل هشاشة الأسطورة التي برّرت لهم الشعور بالتفوّق، وسيكتشفون أيضاً حجم الخطر الذاتي على وجودهم بإثم، يعادل الخطيئة الأصلية، ارتكبوه بحقّ أنفسهم إذ لم يصنعوا سلاماً.

 

حزب الخائفين في إسرائيل جعل من نتنياهو بطلاً قوميّاً. لكنّ أي مصير ينتظره الرجل بعد هدوء العاصفة؟ وهل سيتوقف جنون العظمة في حال فاز دونالد ترامب؟

 

صحيح أنّ الكلمة لا تزال للميدان، غير أنّ النقاش في مرحلة ما بعد الحرب في الدولة والسلاح والسيادة والإصلاح فُتح، ولن يُقفل إلّا بأجوبة لبنانية تحمل عناصر التسوية الوطنية المطلوبة.

الأكثر قراءة