تباين الآراء في لبنان لا يمسّ بالإنسانية!
جان دارك عمّوس
Wednesday, 09-Oct-2024 05:47

لم يكن لبنان يوماً حاضناً للرأي الواحد ولا اللون الواحد، فهذا البلد عُرفَ بالتعدّدية: تعدّدية أحزابه، طوائفه، أفكاره، معتقداته وثقافته... ومقدّمة دستوره تعترف بالديموقراطية القائمة على احترام الحرّيات العامة، وفي طليعتها حرّية الرأي والمعتقد، حتى وصلت به الحال إلى خلافات فادحة في صفوف مواطنيه...

وعلى رغم من هذا التباين الواضح، بقِيَت الإنسانية سيّدة الموقف ولم تطلها نيران السياسة عندما أصبحنا في خِضمّ المعركة!

 

ها هي الحرب التي كنّا نخشاها قد وصلت بكل عتادها إلى لبنان، فمنا من كان مع خوضها لمساندة غزة، ومنا مَن ناشد وقال «لبنان لا يريد الحرب»، ومِنّا أيضاً من كان ضدّ التدخّل في قضية غزة إنّما مع حماية أرض الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي.

 

لكن، لم يكن لهذه الآراء أيّ دور على أرض الواقع، فالمصيبة وقعت فعلاً لتُنتِجَ أزمة نزوح غير مسبوقة من كافة المناطق المستهدفة والمهدّدة.

 

منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها العدو الإسرائيلي بتوسيعِ رقعة أهدافه، متوعّداً بتدمير أبنية وبنى تحتية تابعة لـ»حزب الله»، بحسب مصادره ومزاعمه، هرعَ مئات الآلاف من المواطنين، وخصوصاً من الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، إلى أماكن أكثر أماناً خوفاً من نيران العدو، فكانت الإنسانية، وهي واجب طبعاً، تنتظرهم من كافة الأفرقاء أكان على صعيد الأحزاب، الجمعيات، المؤسسات أو الأفراد، إذ وُضعَت الخلافات السياسية جانباً، وحَلّت مكانها سياسة التضامن، كلٌّ بحسب إمكاناته وقدراته.

 

إذ كان للأحزاب بمعظمها دور في معالجة هذه الأزمة، متخطّيةً كل الاعتبارات السياسية.

 

مناصرو حزب «القوات اللبنانية» مثلاً، رحّبوا بالنازحين داخل مناطقهم، خصوصاً في بشرّي ودير الأحمر المعروفتَين بانتمائهما «القواتي». وفي إحدى مقابلاته، شدّد المطران حنّا رحمة، راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك، على أنّ أبناء المنطقة لم يتأخّروا في التعاون مع البلديات، الكنائس، كاريتاس وكل الجهات المعنية لوضع خطط الطوارئ، مبدياً إعجابه بمحبّة أهالي هذه البلدات الذين يتقاسمون لقمة العيش اليوم مع كل النازحين.

 

أمّا تيار «المردة»، فأحدث مركزاً في سوق الخضار على أوتوستراد بسبعل، لاستقبال وتوجيه الوافدين إلى مناطق زغرتا ـ إهدن، سواء إلى معهد زغرتا الفني الرسمي أو تكميلية طوني فرنجيه.

بالإضافة إلى خطة صحية يعمل عليها القطاع الطبي في تيار «المردة» لمعاينة المرضى من النازحين، من خلال وجود أطبّاء على مدار الساعة في مراكز الإيواء.

 

من جهة أخرى، عمل «التيار الوطني الحر» أيضاً على تشكيل لجان خاصة في مناطق عدّة لمعرفة ما ينقص النازحين داخل مراكز معيّنة.

 

ففي البقاع مثلاً، أكّد لنا أحد الناشطين ضمن منطقة زحلة أنّ قطاع الشباب في التيار أطلق حملة تبرعاتٍ تحت عنوان «كونوا ضمانة بعضكم»، واضعاً أرقام بعض المسؤولين في تصرّف كلّ مَن يرغب بالتبرّع في زحلة وشرقها (قوسايا، دير الغزال، رعيت، كفرزبد...) وتربل.

هذه عيّنة عن بعض الأحزاب التي لبّت نداء الاستغاثة، فاصلةً الخصومة السياسية عن الواجب الإنساني.

 

من ناحية أخرى، وفي جولة سريعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، نلاحظ أنّ العناوين البارزة والفيديوهات والصور في غالبيتها كانت تدور في فلك التكاتف والتعاضد والتعاون، إذ نرى مَن قام بحملةٍ لجمع الحاجات الأساسية للنازحين وأخذ على عاتقه هذه المهمّة، وآخرون ساهموا معنوياً في نشر المبادرات، ومنهم من عرض بيته بالمجان أو عرض منازل للإيجار، وغيرهم أيضاً نشروا أرقام المساهمين والجمعيات والمؤسسات على نطاق أوسع عبر المجموعات والصفحات الخاصّة.

 

بالإضافة إلى ما نشاهده في مراكز الإيواء من مدارس وجامعات ودور العبادة أو حتى المطاعم وأماكن السهر التي سهرت على أمان الهاربين من جحيم الحرب، ففتحت أبوابها لكلّ من ليس لديه القدرة على استئجار بيت أو غرفة.

 

إلى ذلك، تشكّلت «خلايا نحل» في كافة المناطق اللبنانية من أفراد الجمعيات الكشفية والخيرية والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الربحية وغير الربحية، بهدف تأمين المستلزمات الضرورية من أدوية وفرش وأكل وثياب وغيرها، بالإضافة إلى جمع البيانات الخاصة بكل العائلات النازحة لمعرفة نواقصها.

 

هذا إلى جانب خدمات الإصغاء والمتابعة النفسية والطبية التي يقدّمها مجموعة من الأطباء والاختصاصيين، للحفاظ على الحدّ الأدنى من الصحة الجسدية والنفسية في هذه الأوقات العصيبة.

وأخيراً، نصل إلى كلّ من زرع ضحكة على وجوه الأطفال، من خلال نشاطات يتخلّلها اللعب والرقص والغناء، سعياً لإلهائهم عن كلّ هموم الحرب وأخبارها وأصوات القصف البعيدة والقريبة.

 

من هنا نسأل، أليس لكلِّ متطوّع ومساهم من هؤلاء رأيه وفكره الخاص؟ ألا يختلفون بالتّوجهات والأهداف؟

لا شكّ أنّ هناك بعض الاستثناءات التي ظهرت لدى أشخاص يعبّرون عن حقدهم وكراهيتهم، أو يستغلون الأوضاع ويرفعون الأسعار والإيجارات بمقدار غير معقول أو ينشرون الإشاعات، لكنّهم أقليّة، ولا يمكننا التركيز عليهم في حين أنّ الأكثريّة تضامنت وكانت جاهزة للملَمة الجروح...

 

صحيح أنّ أرزَ لبنان ينزفُ من الطعنات المتتالية، وصحيح أنّ الصعوبات أوصلت كثيرين إلى قعر الوادي، وادٍ يسيطر عليه ظلام المآسي، إنّما تبقى شعلة الأمل موجودة، طالما أنّ الإنسانيّة والرحمة والرأفة لا تزال مشتعلة في قلوب غالبية الشعب اللبناني الصامد، الذي يؤكّد عند كلّ مصيبة أنّه طائر الفينيق الذي يعود ويولد من «رحم الأحزان»!

الأكثر قراءة