سجّلت شبكة غامضة من السفن نفسها في الغابون، ممّا يبرز كيف أنّ فلاديمير بوتين يبني اقتصاداً يتجاوز نطاق العقوبات الغربية. وغادرت ناقلة النفط «جاغوار»، التي يبلغ طولها ما يقارب طول خمسة مسابح أولمبية، ميناءً بالقرب من سانت بطرسبرغ في روسيا العام الماضي متّجهةً إلى الهند محمّلة بالنفط الروسي.
تمّت هذه الرحلة في الربيع في وقت كانت السلطات الغربية تحاول بشكل محموم تجميع الشبكة التي تنتمي إليها الناقلة، وهي شبكة من السفن الغامضة ذات المُلّاك الخفيِّين الذين يعتمد عليهم الروس الأقوياء لنقل النفط الروسي الثمين.
لكن من خلال مفارقة في صناعة الشحن، كان للناقلة «جاغوار» روابط مع الغرب. فقد كانت ترفع علم دولة سانت كيتس ونيفيس، التي يقع سجلها البحري خارج لندن مباشرة، على بُعد حوالى 20 ميلاً فقط من السلطات البريطانية التي تلاحق أصول روسيا حول العالم وتراقب شحنات نفطها.
بعد تفريغ النفط، غيّرت «جاغوار» عَلمَها إلى عَلم أقل شهرة، وهو عَلم دولة الغابون في أفريقيا الوسطى. بهذه الخطوة الورقية، تحرّكت الناقلة الروسية إلى ما بَعد متناول السلطات المالية الغربية.
وأظهرت السجلّات أنّ عشرات الناقلات قامت بخطوات مماثلة خلال العام ونصف العام الماضي، في الوقت الذي عملت فيه موسكو على حماية ما يُسمّى بأسطولها المُظلِم في وجه الضغط الدولي للحَدّ من سوق النفط الروسي.
إنّه أحدث فصل في لعبة القط والفأر التي يلعبها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الغرب منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شباط 2022. فبينما سعت السلطات الأميركية والأوروبية والبريطانية إلى تجميد والاستيلاء على الأموال الروسية في جميع أنحاء العالم، وجد بوتين دائماً طرقاً جديدة لتجنّب قبضتها.
في هذه العملية، شكّل بوتين نظاماً عالمياً جديداً من الشركات والدول المستعدة لإجراء تعاملات مع روسيا. وأنشأ اقتصاداً يعتمد بشكل كبير على نفسه بعيداً عن الدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني، ويبتعد بشكل متزايد عن متناول الهيئات التنظيمية.
تسمح العقوبات الغربية لروسيا ببيع النفط، لكن بسعر مُحدّد. ويهدف ذلك إلى تقليل أرباح موسكو والحفاظ على استقرار أسعار النفط. إلّا أنّ روسيا ابتكرت طريقة للتغلّب على ذلك باستخدام أسطولها المظلم لبيع النفط لمشترين في دول مثل الهند والصين، اللتَين لا تلتزمان بسقف السعر.
تُشكّل ناقلة «جاغوار» وغيرها من الناقلات المشابهة أمثلة على الأصول الروسية التي حافظت على روابط بيروقراطية مع الغرب، حتى مع ملاحقة المسؤولين الحكوميِّين للأموال المرتبطة بالكرملين. كما أنّ سجل السفن الخاص بسانت كيتس ونيفيس يُدار من بريطانيا، وتدير سلطات الشحن الكبرى الأخرى، مثل ليبيريا وجزر مارشال، عملياتها من ضواحي واشنطن.
سواء كانت السلطات الأميركية والبريطانية غافلة أو مشغولة أو غير متأكّدة ممّا إذا كانت لها صلاحية التصرف، فإنّ ناقلات الأسطول المظلم ظلّت غير متأثّرة بعد أكثر من عام على الحرب. ورفض مسؤولو وزارتَي الخزانة والعدل التعليق على السفن. وفي بريد إلكتروني، أشارت وزارة الخارجية البريطانية إلى أنّها لا تزال تدرس ما إذا كانت سجلات السفن الأجنبية التي تقع في بريطانيا ملزمة بالامتثال للعقوبات البريطانية.
منذ تموز 2023، غيّرت أكثر من 85 سفينة مرتبطة بروسيا تسجيلاتها من ليبيريا إلى الغابون، وفقاً لشركة التحليلات البحرية «ويندوارد». ومن بين هذه السفن، سفن من أسطول «سوفكومفلوت»، وهي شركة شحن روسية مملوكة للدولة وتخضع إلى العقوبات الغربية.
بهذا، تضخّم سجل الغابون، الذي تمّ افتتاحه في 2018، ليصبح واحداً من الأسرع نمواً في العالم.
وأظهرت معلومات تسجيل السفن التي تمّ الحصول عليها من خلال «مارين ترافيك» و»لويدز ليست» أنّ ناقلات روسية أخرى أعادت تسجيل نفسها في بنما وبالاو. وقد وفّر هذا التحوّل في حركة السفن فرصة للبلدان الصغيرة للاستفادة من الحرب في أوكرانيا.
فبعد انقلاب عسكري في عام 2023، أصبحت الغابون أكثر ودية تجاه روسيا، وكانت جزءاً مهمّاً من سلسلة الإمداد لموسكو، حيث تمّ نقل قطع غيار طائرات غربية الصنع عبر شركة غابونية إلى روسيا، وفقاً لتقرير من صحيفة «ذا موسكو تايمز».
ولم تردّ السفارة الروسية في لندن على رسائل البريد الإلكتروني التي تطلب التعليق على الناقلات التي تمّ تسجيلها في الغابون.
وأوضح كريغ كينيدي، المصرفي الاستثماري السابق وزميل حالي في مركز ديفيس للدراسات الروسية والأوراسية في جامعة هارفارد، أنّ «الغابون مهمّة لروسيا لأنّها مستعدة لتسجيل الناقلات التي أسقطتها دول أخرى تحت ضغط غربي. إنّهم يساعدون روسيا في تطوير قدرة شحن موازية تُسهّل بيع النفط بأسعار تتجاوز سقف السعر».
عادةً ما تكون سجلّات الشحن بين الشركات الروسية وعملائها سرّية، لذا من المستحيل تقريباً معرفة ما إذا كانت جميع الناقلات التي غيّرت أعَلامَها قد باعت النفط الروسي وبأيّ سعر.
لكنّ صحيفة «نيويورك تايمز» حصلت على فواتير تُظهِر أنّ ثلاث ناقلات على الأقل من أسطول روسيا المُظلِم باعت النفط الروسي العام الماضي مع الحفاظ على روابط بيروقراطية مع الغرب. وقد قام مسؤولو وزارة الخزانة الأميركية بمراجعة هذه السجلات ذاتها، وفقاً لشخصَين مطّلعَين على مراجعة الوزارة.
وتواصل المسؤولون الأميركيّون مع الحكومة الغابونية بشأن العقوبات والسفن المعيّنة، وفقاً لمسؤول أميركي. وطلب هذا المسؤول عدم الكشف عن هويّته للتحدّث عن أمور حكومية داخلية، مضيفاً أنّ مجموعة الدول السبع التي تقف وراء سقف السعر ما زالت تعمل علناً وسراً على إنفاذه.
هناك مؤشرات إلى أنّ الغابون منفتحة على الاستماع. فقد أزالت عَلمَها من إحدى السفن هذا العام بعدما أشارت السلطات الغربية إلى أنّها خاضعة إلى العقوبات.
وعلى عكس ناقلات «سوفكومفلوت» المرتبطة بشكل مباشر بالدولة الروسية، فإنّ الشبكة المظلمة التي تنتمي إليها «جاغوار» هي جزء من شبكة يصعب تتبعها. وقد تمّ ربطها بشكل غير مباشر بأشخاص نافذين داخل روسيا، بمن فيهم «روسنفت»، شركة النفط الحكومية الروسية، وإيغور سيتشين، رئيسها الذي يُعتبَر على نطاق واسع حليفاً ومستشاراً مقرّباً لبوتين، وفقاً لتحليل معلومات تسجيل السفن وشخصَين مطّلعَين على شبكة الأعمال الخاصة بالأسطول.
تُعَدّ «جاغوار» واحدة من السفن التي تستأجرها شركة «فوليتون»، وهي تاجر منتظم للنفط الروسي خضعت إلى عقوبات الولايات المتحدة في أواخر العام الماضي.
ولم تردّ وزارة النقل الغابونية ولا السفارة الغابونية في لندن على طلبات متكرّرة للتعليق. ولم يردّ اثنان من الأشخاص الذين أجابوا على الهاتف في «إنترشيبينغ سيرفيسز»، التي تدير سجل الغابون من الإمارات العربية المتحدة، على الأسئلة المتعلقة بعملية التصديق الخاصة بهم وازدهار التسجيلات.
يجب أن تُسجَّل جميع السفن لدى سلطة وطنية، وتتنافس الدول التي لديها سجلّات بحرية على تقديم ضرائب أقل، ولوائح أقل صرامة، وشهادات سريعة.
عند تسجيل السفن، يتعيّن على السلطات التصديق على أنّ السفينة صالحة للإبحار ومؤمّنة بشكل جيّد. وقد أسهم تسجيل الغابون لعدد كبير من ناقلات النفط الروسية في سمعتها بأنّها ليست صارمة مثل غيرها من السلطات القضائية.
في العام الماضي، وقع انفجار قاتل على متن ناقلة قديمة كانت قد سُجِّلت حديثاً في الغابون. وفي هذا العام، تمّ احتجاز ناقلة أخرى مسجّلة في الغابون، في جبل طارق، بعدما اشتكى طاقمها من عدم دفع رواتبهم لمدة شهرَين.