فيليب جاكوتيه ومحاورةٌ للقصيدة بين الديالكتيه والوجودية
نسرين بلوط
Wednesday, 25-Sep-2024 06:28

بما أنّ الصراع الداخلي الذي يعيشه الكاتب هو توأمٌ أزليّ للمغزى، يقتبسُ الشاعر السويسري فيليب جاكوتيه من نواميس كيانه، أحجيةَ العدم ليسطّرها في مجامع القصيدة ويطلق سراحها كالطير الذبيح الذي آنس النورَ بعد فجيعة الظلام، فانطلق غير آبهٍ بما قد يصادفه من تقلّب الجوّ وبراثن الصقيع.

يتبصّر الاندماج الثنائي بينه وبين المفردات سبيلَ الميثيولوجيا الماورائية للانعكاس الوجودي الذي يبثّه الوصفُ الميتافيزيقي في فلسفةٍ محورية تستطيع أن تهيمنَ على أسلوب العرض الحلزوني الذي يلجأ إليه للتعبير عن تساؤلاته الجمّة التي تشي باضطرام الوجدان وتجنيد المنطق في خدمة التشكيل الفنّي للمفردات.


وبما أنّ الديالكتيكية المتجذّرة في الواقع تومض بين فيزيائيّة وصفه وحواشي نصّه، يستنتجُ حيرته الملتبسة من وراء جدران الغيب، ويوغل في النقد الملتفّ على النزعة الاشراقيّة، وهو الناقد الذي يتلقّف بمجهر نقده مطبّات الآخرين، إذ به يسلّطه على قصائده التي تجسّمت من تراكم السنين وتعاقب الأحاسيس، فيقول: « للطيور كنزٌ سِمته الهشاشة/مع ذاك فإنّ بمقدوره دومًا أن يتألّق في الضيا/لعلّ غابةً رطبةً تقوم على حراسته/وقد تهيّأ لي أنّ ريح البحر تَهدينا إليه/نراه من ظهره، قدّامنا كالظلّ/وعلى الرغم من هذا فإنّي لن أقول/ما يهجس به الحدس في الليل الشغوف/لن أقوله حتّى لمن يقاسمني الطريق/حتّى لهذه الأغنية/أليس أجدر بنا أن نترك اللبلاب/يتسلّق الجدران صمتاً/مخافة كلمةٍ تزيد عن اللزوم/فتفصل بين ثغرينا/ويسقط العالم الرائع، جرّاءها، في الخراب؟/إنّ الذي يحيل الموت/خطاً من البياض في بواكير الصباح/يقوله العصفور لمن يصغي إليه».


وهكذا يحملُ الشاعر جاكوتيه قلقه الوجودي وينتحرُ في أخربة السراب بين طيرٍ مهاجرٍ وأملٍ مناظر، ينأى عن الصخب وينطلقُ في رحلةٍ مجدليّة بين القداسة والتشكيك، متأثّراً بريلكه شاعر الوردة في تقديم حساسيته المفرطة في قالبٍ من الأشجان والألحان المتجانسة والمتنافرة في آنٍ معاً، فيقول في قصيدة «الجاهل»: «كلّما شختُ كلّما آمنتُ بالجهل/كلّما عشتُ أمتلكُ أقلّ وأحكمُ أقل/كل ما هو لي، هو فضاءٌ متعاقب/مكسوٌّ بالثلج، ولامعٌ لكنّه لم يسكنه أحد».


لقد التقى جاكوتيه بريلكه من حيث التأمّل بالعالم النوراني والتبحّر في فسيح علومه وخباياه، فاعترته نشوة الانصهار بالبعث الخاوي للإنسان الذي يكبر ليصغر ويعود إلى نقطة البداية من دون رغبة منه، وقد آمن بأنّه أعاد اكتشاف غوته من خلال رحلة بحثه البحريّة التي يلفحها نسيمُ البعث بسبب بعده عن الفوضى الأدبيّة السائدة وانعزاله معه في عالمِ التوحّد والتفرّد الشاعري.


وهو يروي في قصيدته، من حيث لا يروي تفاصيل التعارض والتصادم بينه وبين الحياة، فيقول: «عدوٌّ معتمٌ يُقاتلنا ويُحاصِرُنا، دعني فيما تبقّى لديّ من أيام، أكرّس هشاشتي وقوّتي من أجل النور، عساني أتحوّل إلى برقٍ في النهاية، الإمّحاءُ طريقي للتألّق، كلما قلّتْ الشراهةُ والثرثرةُ في أقوالنا، كان من الأفضل إهمالهما، لكي نرى العالمَ، حتى في الحيرةِ، يضيءُ بين نشوة الصباح وخفّة المساء، كلما قلّتْ دموعنا التي تغمرُ أعيننا، وتخفّفت ذاتنا المُحاطةٌ بالخوف، أصبحت النظراتُ أكثر وضوحاً، ورأى التائهون بشكل أفضل الأبواب المدفونة أمامهم. الإمّحاءُ طريقي للتألّق، والفقرُ يُثقلُ مائدتنا بالفاكهة، والموت قريباً كان أو مبهماً، كيفما شاء، سيبقى غذاءَ النورِ الذي لا يَنْفد».


هي تأمّلاتٌ وجوديّة تنمّ عن تناوله الضمنيّ لفلسفة هيغل وضبابيّة هايدغر التي تُدين ما فُرِضَ على الانسان من مقرّرات العيش، من دون الإحاطة بكلّ جوانب الحياة الموضوعيّة التي يجب أن يندمج معها المرء بسلاسة وانفتاح، وقد غصّ قلمه بألمٍ لا يتحمّله غير الشعراء الذين يتكبّدون أهوال الظلام بانتظار عودة النور وتبعثر العتمة.


فيليب جاكوتيه شاعرٌ هادئُ لا يعرف الكلل، ويَشيح عن الألم معانقاً سحب الأمل على الرغم من المرارة المتزحلقة من طيّات حروفه، وقد نجح في اختصار المغزى وتوضيح المعنى ووصل طريق الشعر بغايته السامية، نازعاً عنه أشواك المادّة التجريبيّة، فلم تتحشرج جمله وتفترق، بل اتّصلت بوحدة قاموسها، وقد غنّاها في أوركسترا ذهنيّة متدفّقة نمّت عن ذوق شاعر حقيقي جاء من زمنٍ نادر ورحل في زمنٍ مغاير، لكنّه لم يتبدّل ولم يتأثّر بموجة الإحباطات التي زفّت بوادرها بين الشعراء.


وقد صرّح في أكثر من مرّة بأنّه عاش الشعر كأعجوبةٍ من أعاجيب الأحاجي المتصوّفة التي استمدّ منها حكمة الحياة ورونق الرحيل وتجزيئ الإنسان إلى ثلاثة أقسام تبدأ بذهنه المتوقّد وتستمرّ بجسده المتطلّب للغرائز البشريّة وتنتهي بعقله الذي لا يخيّب رجاء طالب، ويبرهن بأنّ الانعكاس الوجودي هو سرّ التبشير والتنوير والتفكير المطوّل الذي لا تخبو شرارته مهما تكدّس غبار الشجن.


عاش جاكوتيه كالضيف العابر الخفيف، لا يكاد يشعر بوجوده أحد، لكنّه أبهر بكتاباته الشعرية والنقدية، وقدّم التراث الأدبي الألماني لشعراء وأدباء كبار بترجمةٍ باهرة، ولم يستطع إلّا أن يكونَ الناقد لذاته، والراقد على العشب المخضوضر لمشاعره المحلّقة في أعالي الجبال مع الطيور وأهازيج الطبيعة ومنحدرات الوديان التي سال بريقها من مداد الشوق ولهفة الشاعر وحرقة المشتاق، فشكّلته القصيدة قبل أن يشكّلها، وخلقته خلقاً جديداً.

الأكثر قراءة