عندما تعاونت إسرائيل والولايات المتحدة قبل 15 عاماً لتنفيذ الهجوم السيبراني الذي يُعتبَر الأكثر تأثيراً في عصر جديد من الصراعات - وهو عملية مبتكرة لزرع شيفرة خبيثة في منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية، ممّا أدّى إلى إخراجها عن السيطرة - خضع الهجوم إلى مراجعة دقيقة من قِبل المحامين وصنّاع القرار لتقليل المخاطر على المدنيِّين العاديِّين.
اتُخِذ القرار بالمضيّ قدماً لأنّ المعدّات المستهدفة كانت تحت الأرض بشكل عميق. وتأكّد الرئيس باراك أوباما أنّ التأثيرات يمكن احتواؤها بشكل صارم. وعلى الرغم من ذلك، حدثت مفاجآت: تسرّبت الشيفرة السرّية، وعدّلت جهات أخرى البرامج الضارة واستخدمتها ضدّ مجموعة متنوّعة من الأهداف.
الآن، يُفترض أنّ تخريب إسرائيل لمئات أو ربما الآلاف من الأجهزة اللاسلكية مثل أجهزة النداء والاتصالات التي يستخدمها «حزب الله»، قد نقل فن التخريب الإلكتروني إلى مستوى جديد ومُخيف. هذه المرّة، كانت الأجهزة المستهدفة تُحفَظ في جيوب السراويل، وعلى الأحزمة، وفي المطابخ. فتحوّلت الأجهزة العادية للاتصال إلى قنابل صغيرة.
وعلى الرغم من أنّ الهدف كان مقاتلي «حزب الله»، فإنّ الضحايا كانوا أيّ شخص يقف حولهم، بما في ذلك الأطفال. تقول السلطات اللبنانية إنّ 11 شخصاً لقوا حتفهم وأُصيب أكثر من 2700 شخص في هجوم الثلاثاء. وفي يوم الأربعاء، قُتل 20 شخصاً آخر وأصيب 450 آخرون في جولة ثانية من الهجمات بأجهزة اتصال مفخّخة.
هناك سبب للخوف من أين قد يأتي هذا الهجوم على مقاتلي «حزب الله» لاحقاً. التاريخ يُظهر أنّ التخريب، عندما يتجاوز عتبة جديدة، يصبح متاحاً للجميع.
بالطبع، ليس هناك شيء جديد في تخريب الهواتف أو زرع القنابل: فالإرهابيّون ووكالات التجسّس فعلوا ذلك لعقود. ما جعل هذا مختلفاً هو النطاق الكبير، أي زرع المتفجّرات في العديد من الأجهزة في آنٍ واحد. مثل هذا العمل الخادع يَصعب تنفيذه لأنّه يتطلّب التوغّل بعمق في سلسلة التوريد. وهو، بطريقة ما، أفضل سبب يجعل الناس لا يخشون من ثلّاجاتهم وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بالإنترنت.
لكن إحساسنا بالهشاشة بشأن كيفية تحويل الأجهزة العادية المتصلة بالإنترنت إلى أسلحة قاتلة قد يكون في بدايته فقط. و«قد تكون هذه أول لمحة مخيفة عن عالم لا يمكن فيه الثقة بأي جهاز إلكتروني، بدءاً من هواتفنا المحمولة وصولاً إلى منظمات الحرارة»، بحسب ما يشرح غلين غيرستيل، المستشار العام لوكالة الأمن القومي لمدة 5 سنوات حاسمة عندما اشتدّت حروب الفضاء الإلكتروني، يوم الأربعاء.
وأضاف غيرستيل: «رأينا بالفعل روسيا وكوريا الشمالية تطلقان أسلحة إلكترونية خارجة عن السيطرة، ما أضرّ بأجهزة كمبيوتر عشوائية حول العالم. هل يمكن أن تكون الأجهزة الشخصية والمنزلية التالية؟».
إذا كان غيرستيل محقاً، فإنّه يُثير السؤال حول ما إذا كانت هذه الهجمات، المنسوبة إلى حَدٍّ كبير إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تستحق الثمن في إحساسنا المشترك بالهشاشة. فالانفجارات لم تكن لها غاية استراتيجية كبيرة. كما أشار ديبلوماسي غربي له خبرة طويلة في التعامل مع الشرق الأوسط، إلى أنّها بالكاد كانت ستجعل قادة «حزب الله» يتخلّون عن قضية قاتلوا من أجلها لأكثر من 4 عقود.
الأثر الرئيسي هو نفسي. تماماً كما يجعل المراقبة الشاملة الناس يتساءلون عمّن قد يكون لديه وصول إلى هواتفهم التي تحتوي الآن على تفاصيل وخبايا حياتهم - الصور، الرسائل النصية، أرقام بطاقات الائتمان، فيجعل التخريب الجميع يخشون أن تصبح الأجهزة العادية مصدراً فورياً للإصابة أو الموت. إنّه يأكل من نفسية الناس.
كما أنّه يعطّل الاتصالات، ممّا أدّى إلى تكهّنات بأنّ الهجمات قد تكون الفصل الافتتاحي في هجوم إسرائيلي أوسع. فوزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، كشف قبل أن تبدأ الانفجارات في الاهتزاز عبر لبنان، أنّ «مرحلة جديدة» من العمل العسكري قد بدأت، متحوّلةً من غزة إلى الشمال. فإنّ جعلْ مقاتلي «حزب الله» وقادتهم يشعرون بالرعب من التقاط أجهزتهم اللاسلكية قد يوفّر ميزة هائلة، وإن كانت موقتة. ومع ذلك، لم يتحقّق هذا الهجوم الأوسع حتى الآن.
فيما لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى كانت هناك براعة سيبرانية متورّطة في الانفجارات المميتة. وبدا أنّ أجهزة النداء، التي لجأ إليها «حزب الله» بسبب خوفه من أن تكون إسرائيل قد اخترقت هواتفه المحمولة، جذابة له تحديداً لأنّها كانت منخفضة التقنية ولا تعمل عبر شبكات الهواتف المحمولة والإنترنت.
توجد نظريات كثيرة حول كيفية زرع المتفجرات في الأجهزة. وفقاً للسيناريو الأكثر احتمالاً، قام عملاء إسرائيليّون بخلط المتفجّرات في البطاريات عند تصنيع الأجهزة، عبر شركة واجهة في بودابست حصلت على ترخيص بتكنولوجيا أجهزة النداء من شركة تايوانية. ويعتقد آخرون أنّ الأجهزة قد تمّ تعديلها في وقتٍ ما بين تصنيعها وتوزيعها على قادة ومقاتلي «حزب الله».
مهما كانت وسيلة التخريب، كانت النتيجة نفسها: بضع أوقيات من المتفجّرات، مخبأة في أجهزة النداء وأجهزة الاتصالات، كانت قادرة على إحداث إصابات جسيمة، أبعد ممّا يمكن أن تسبِّبه إذا ارتفعت حرارة البطاريات وأشعلت النار.
من الممكن أنّ هذه الاجهزة قد تمّ تفجيرها بواسطة رسالة أُرسِلت في الوقت عينه إلى أجهزة النداء. أو ربما تمّ استغلال ثغرة في الشيفرة الأساسية التي تشغّل أجهزة النداء، ممّا سمح للمهاجمين بزيادة حرارة البطاريات وتفجير الشحنات المتفجرة.
لكن يمكن للإسرائيليِّين أيضاً أن يكونوا قد استخدموا العمليات السيبرانية أو الاعتراضات للإشارات لمعرفة كيفية الوصول إلى أجهزة النداء عينها، كما يقول بعض الخبراء.
ويرى جيسون هيلي، خبير السيبرانية في جامعة كولومبيا، أنّه «من المرجّح أنّ العمليات السيبرانية الرئيسية قدّمت فقط المعلومات الاستخباراتية التي تفيد بأنّ «حزب الله» طلب طلبية كبيرة من أجهزة النداء، وأين ستكون في سلسلة التوريد في أوقات محدّدة. في معظم الأحيان، تمّ إرسال إشارة تفجّر المتفجّرات. ربما استُخدِمت بالفعل بعض الاستغلال لزيادة حرارة البطارية ممّا تسبّب في التفجير».
التوغل في سلاسل التوريد لتنفيذ عمليات التخريب ليس جديداً. قبل أكثر من عقد من الزمان، اعترض المسؤولون الأميركيّون مزودات الطاقة المتجهة إلى إيران لجعل أجهزة الطرد المركزي النووية في البلاد تدور، بالتالي التأثير على قدرتها في إنتاج الوقود الذي يمكن تحويله إلى مشروعات أسلحة.
إعترض المسؤولون الأميركيّون مولّدات طاقة صينية الصنع خلال إدارة ترامب التي كانوا يعتقدون أنّها عُدِّلت لإدراج «زر قتل» يمكن تنشيطه من خارج البلاد. ولأكثر من عام الآن، كان المسؤولون الأميركيّون يحذّرون من عملية «الإعصار الجهد العالي»، وهي عملية استخباراتية صينية لتخريب شبكات الطاقة الأميركية ببرامج ضارة يمكنها إطفاء الأضواء وإمدادات المياه، خصوصاً خلال نزاع حول تايوان.
قبل أن تتوغّل أجهزة الاستخبارات الصينية في شبكة الطاقة الأميركية، قامت روسيا بالفعل بذلك ـــ ولردع موسكو، زرعت الولايات المتحدة شيفرة في الشبكة الروسية.
تشير الأدلة الأولية، مع ذلك، إلى أنّ هذه التقنيات قد تحقّق ميزة تكتيكية، لكن تأثيراً استراتيجياً ضئيلاً. حتى الهجمات السيبرانية الأميركية والإسرائيلية على أجهزة الطرد المركزي في إيران - وهي عملية سرّية ومكلفة تحمل الاسم الرمزي «الألعاب الأولمبية» - أخّرت البرنامج الإيراني لمدة عام أو 18 شهراً فقط. وفي النهاية، دفعت البرنامج إلى عمق أكبر تحت الأرض.
لكنّ الهجمات مثل تلك التي استهدفت أجهزة الطرد المركزي، أو شبكات الطاقة، تستهدف البنية التحتية الكبيرة، وليس الأجهزة المحمولة. بالتالي، قد تشير الهجمات في لبنان إلى تصعيد جديد في هذا النوع من التخريب، المُصمَّم لإصابة الأجهزة المحمولة.
ويضيف هيلي: «بالتأكيد، إذا تمكنت أجهزة الاستخبارات الصينية أو الروسية من زيادة حرارة الأجهزة الإلكترونية لإحداث حرائق، فقد يساعد ذلك في إبقاء المدافعين في حالة ارتباك في المراحل الأولى من أزمة. لكن هذا يبدو بعيد الاحتمال بعض الشيء، إذ كانت هناك أمثلة كافية عن السعي إلى تدمير البنى التحتية الكهربائية فعلياً».