كنّا تساءلنا في المقال السابق حول توقيف سلامة، هل "وِعيُوا أو تمثيلية؟"، وجاءتنا تعليقات مختلفة تجزم بمعظمها أنّها تمثيلية، وأنّ المنظومة لن تُحاكم نفسها، وخصوصاً أنّ الكل متورّط، والبعض أشار إلى أنّ هذا سيناريو مرسوم لمساعدة سلامة على التخلّص من الدعاوى القضائية في الخارج، والحُكم عليه بأخفّ عقوبة كرفع عتب، وإقفال ملف الودائع نهائياً وكأنّ الموضوع انتهى بمجرّد محاكمة سلامة.
وحيث أنّنا مع انتظار نتائج التحقيق لنعرف مدى جدّية التعاطي مع هذه الملفات، وهذه فرصة تاريخية للقضاء البناني أن يبرهن أنّه على مستوى الثقة.
إلّا أنّ هناك بعض المؤشرات المقلقة باتت تظهر أولها، كفّ يَد القاضية غادة عون ومنعها من متابعة التحقيق، وتمّ إبلاغها دعوى مخاصمة ضدّها من رياض سلامة ليمنعها من استجوابه في ملف الـ 8 مليارات دولار المختلسة. يا للغرابة كيف ستستقيم الأمور في بلد يستطيع المتهم فيه رفع دعوى على القاضي، هذا يجعل المرتكبين والمجرمين يسرحون ويمرحون، ويمنحهم حصانة، وهذا يُفقِد الثقة بكل مؤسسات الدولة. هذا مثال فاضح للقوانين الحقيرة التي تمنع إقرار العدالة والمحاسبة.
ثم منع القاضية هيلانة اسكندر من حضور التحقيق كممثلة عن الدولة اللبنانية، بحجة أنّ ما تمّ تحويله هو من خزينة المصرف المركزي وليس من الخزينة العامة، كيف يتمّ استبعاد الدولة اللبنانية من حضور التحقيق، أيَعتبر القضاء أنّ المصرف المركزي ملك رياض سلامة وأصحاب المصارف وعدد من المسؤولين وغير المسؤولين؟ المصرف المركزي ملك الشعب ممثلاً بالدولة اللبنانية.
وبات يُحكى اليوم عن نسج «مؤامرة» جديدة تقضي بإغلاق ملف سلامة سريعاً على بورصة 42 مليون دولار، وتنويم عشرات مليارات الدولارات المسروقة في أدراج القضاء، على الرغم من وجود ملفات مفتوحة فيها (الأخبار الثلاثاء 10 أيلول 2024).
كل ذلك يعني أن لا حدود للوقاحة، وإذا تمّ إقفال التحقيق على بضعة ملايين والتغاضي عن سرقة العصر التي حصلت، فهذا يعني أنّ كل شي سقط في لبنان مِن القضاء والدولة والمؤسسات والإعلام.
والوقاحة الأكبر تتمثّل بما أصدره المكتب الإعلامي لرياض سلامة، الذي هدّد فيه الإعلام اللبناني بأنّ المادة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تفرض موجب سرّية التحقيق، وتعاقب كل من يفشي أي معلومة عن التحقيق بعقوبة الحبس لمدة سنة إضافة إلى الغرامة. ويتمسّك اليوم مَن خرق معظم القوانين بقانون سرّية التحقيق، علماً أنّ هذا التحقيق تحديداً يجب ألّا يكون سرّياً بل يكون علنياً، لأنّه يَمسّ بحياة كل مواطن، إذ أدّت ممارسات سلامة وشركائه إلى تدمير حياتهم وإفقارهم. هذا التحقيق تحديداً هو حقّ للشعب. ونعرف أنّ التحقيق سرّي بموجب القانون، لكن هذا التحقيق استثنائي، ولا يجوز تطبيق القوانين المرعية الإجراء عليه، لأنّ المتضرّرين من أفعال سلامة هم أناس جاعوا وحُرموا من الطبابة، وفَقدَ أبناؤهم فرصة التعليم، واضطرّوا إلى أن يعودوا إلى العمل بعد سنّ التقاعد، وتعرّضوا إلى الذلّ أمام أبواب المصارف. أمّا النتائج غير المباشرة فهي إفلاس دولة بكاملها وتيئيس جيل بكامله. وهذا جرم لا يوصف ولا يجوز محاولة تغطِيَته عن طريق قوانين غير صالحة!!!
وكم نتحسّر على عدم إقرارنا الشفافية المطلقة التي تُسقط مفهوم السرّية عن كل ما يتعلّق بالمال العام وحقوق المواطنين، فالسرّية لا تسري إلّا على الأموال الخاصة والنزاعات الشخصية، أمّا في أفظع سرقة دمّرت بلداً بكامله، فإنّ المطالبة بالسرّية هي وقاحة ما بعدها وقاحة.
لا عذر لأحد اليوم لعرقلة أو تمييع التحقيق، وعدم التوسّع به هو أكبر جريمة تُرتكب بحق الشعب اللبناني، أمّا مَن يُبشّر من المسؤولين أنّ الودائع لا وجود لها فإنّنا نسألهم كيف عرفوا ذلك، من حقنا أن نسألهم كيف عرفوا ذلك، هل اطّلعوا على حسابات المصرف المركزي وكل مصرف على حدة، وإذا اطّلعوا فلماذا لا يطلعوننا على ذلك؟ وإذا كانت الودائع غير موجودة، لماذا لم تُعلن المصارف إفلاسها وتنشر حساباتها وهناك طرق قانونية لإعلان الإفلاس؟ نذكّر مجدّداً أنّ الودائع موجودة في المصارف، ومَن يُصرّح أنّ الودائع اختفت، يساعد المصارف عن قصد أو غير قصد في تيئيس أصحاب الودائع، ليستمرّ أصحاب المصارف في تحقيق أرباح على حساب المودعين.
فضائح متتالية في دولة تنهار، على أمل أن تشكّل الانتخابات المقبلة صحوة جماعية تطيح كل من سرق، وشارك، وتواطأ على الشعب، وأوصله إلى التعتير وحرمه من اقتصاد مزدهر وبحبوحة.