"قبضة الماضي" يوميّات الحشر الأخير
نسرين بلوط
Saturday, 07-Sep-2024 07:10

تجمّعُ النفسُ البشريّة حسب تحليل فرويد الحصى المتناثرة في البيئة التي تحتويها، وتفنّدها وتبقي ما يتناسب مع كينونتها وتماهيها الاجتماعي والنفسي، وتنبذ ما يرسب في القاع منها، ولكنّ الظلمة الجانحة التي ترشح منها قد تكتنف معالم وجودها وتتأثّر بها خاصّة إذا ما تسرّبت ذكرياتٌ من الستار المسدل على الماضي، فتنطلق حينئذٍ على سجيّتها غير عابئةٍ بأيّ قيودٍ أو حدودٍ زمنيّة أو بشريّة.

وقد حاولت الكاتبة البريطانيّة روزي والش من خلال روايتها " قبضة الماضي" الصادرة بترجمة عربيّة عن دار نوفل- هاشيت أنطوان، أن تحكم سيطرتها على الانفعالات الداخليّة الجيّاشة التي تضطرم في صدور أبطالها، فرسمت مشهداً واحداً لا يتحرّك رغم التنوّع القليل الذي أتخم الرواية بتفاصيل جمّة، وهو الإثارة الدينماكيّة التي أرجحت من خلالها لعبة النرد التي تدير رؤوس المحرّكين لدفّة الحدث، وفردت مساحةً كبيرةً للعواطف المتداخلة كي تفرضَ سيطرتَها متأثّرةً بالتخطيط الهندسي الذي اتّبعته بولا هوكينز في تمهيد النهاية الجازمة لقصّتها المثيرة، ولكنّها افتقدت عنصرَ الدهشة الذي تمتّعت به هوكينز بسبب تلهّفها لتقديم سيناريوهات عاطفيّة لا تخدم مدخل القصّة بل تزيد من تشعّبها وتنوّعها الجامد.

 

تستعرض والش قصة ايما عالمة الأحياء البحريّة التي تعيش في هدوء ظاهري مع زوجها ليو وطفلتها روبي وكلبها جون كيتس في منزل جدّتها الذي ورثته عنها، ويظنّ الجميع بأنّها تنعم بالسعادة الداخليّة ولكنّها تخفي أسراراً كثيرة عن زوجها والآخرين، وربّما كانت صديقتها جيل وحدها من تعلم بكلّ الحقائق المتوارية في صندوق الماضي.

 

يكتشف ليو بعد ابتعادها بأنّها أخفت ماضيها برمّته عنه، فقد غيّرت اسمها في الماضي وطردت من الجامعة ثمّ نالت شهادتها فيما بعد من خلال التعليم عن بعد، وهي تضرب مواعيد مثيرة للريبة لشخصٍ ما يدرك فيما بعد بأنّه رجل شهيرٌ وثري وهو زوج جانيس الممثّلة الشهيرة التي اختفت منذ وقت قليل دون أن يعرف مكان اقامتها أحد.

 

تتضّح الحقيقة بأنّ ايما كانت قد أنجبت طفلاً غير شرعي قبل زواجها بليو في مرحلة دراستها الجامعيّة ولم يعترف به والده كونه رجل متزوج، فعهد به إلى أقربائه جانيس وزوجها لرعايته بعد موافقتها إذ أنّها قد تعرّضت لصدمة ما بعد الانجاب وكانت تتعالج في مصحّ نفسي وقد اتّهمتها جانيس عندما زارتها بأنّها كانت تهمّ بخنق طفلها.

 

تحاول ايما طوال السنوات الماضية أن ترى طفلها وتتعرّف عليه وتواكبه في مراحل تطوّره العمري والذهني ولكنّها تقابل بالصدّ من قبل جانيس التي تصدر ضدّها أمراً قضائيّاً بعدم الاقتراب من الطفل.

 

ورغم القوقعة الذاتيّة التي فرضتها ايما على نفسها إذ تمنّعت مكرهةً عن رصد تحرّكات ولدها وحاولت الابتعاد عن الماضي، بقيت جانيس تحاربها وتشنّ ضدّها حملاتٍ تشويهيّة، غير أنّها تختفي فجأة تاركة وراءها شارلي طفل ايما الذي أصبح في المرحلة الدراسيّة الجامعيّة، ويظنّ زوجها بأنّ ايما هي من اختطفت جانيس.

 

تبتعد ايما بدورها عن ليو بعد اكتشافه حقائق ماضيها، وتحضر صديقتها جيل إليها شارلي ابنها كي تتعرّف إليه، ثمّ يقومان سويّاً برحلة بحث عن جانيس فيجدانها في كوخٍ من الأكواخ الترفيهيّة وقد ابتلعت أقراص الدواء في محاولة منها لانهاء حياتها، ولكنّهما ينقذانها قبل فوات الأوان.

 

تنتهي الرواية بعودة ليو إلى ايما رغم كلّ ما تنامى إليه من الجوامع الأثريّة التي حفل بها ماضيها، وبمحاولة ايما أن تفتح صفحة بيضاء في حياتها خاليةً من الخفايا والذنوب وأن تبني علاقة وطيدة مع ابنها الذي شبّ بعيداً عن نظرها حتى ترقص أنوار الأمل في أيّامها القادمة.

 

لم تستطع الكاتبة روزي والش بأن تفكّ جلبة القيود عن أعناق المغزى وهو ما دعا إليه الناقد الاسباني خوليو كورتاثار فبقيت الإثارة السرديّة قصيّة عن المنال في روايتها، ولم تستطع القفز وراء قشور الرومانسيّات المتوارثة عن الأدب الكلاسيكي القديم، ولكنّها قدّمت عبرةً صحيحة بأن يتحرّر الانسان من قيود الماضي وينطلق في أفلاك الحاضر وتساؤلات لأنّ قطار العمر لا يحتمل التأجيل في رحلة مسيره، إذ يتوقّف أمام محطّاتٍ سريعة لا ينحصر فيها الزمن،  حتّى لا يحصر نفسه في سجنٍ يترجرج بين الموت والحياة،  فيُحشر بينهما حتّى العدم.

الأكثر قراءة