لا تنقصنا في البلد الهموم والمخاطر، لكي نزيد عليها مخاطر إضافية قد تتحوّل الى قنبلة موقوتة تنفجر فينا فجأة، وتساهم في تعميق الانهيار المالي والاقتصادي المتمادي منذ نهاية العام 2019. ما يجري منذ فترة على مستوى انتشار شركات تحويل الاموال، يَشي بفوضى تهدّد بضربة جديدة قد يتلقاها اللبنانيون على حين غرّة.
تفسيرات متعددة أُعطيَت لتبرير ظاهرة نمو شركات تحويل الاموال التي تعتمد التقنية الرقمية (digital)، في عملها، أو ما يُعرف بالـWallet.
انتشرت هذه الظاهرة في عدد كبير من دول العالم، وقد وصلت لبنان في ظروف ملتبسة، وتمّت لبننتها، كما جرت العادة، بحيث أصبحت المخاطر أكبر من الايجابيات التي يمكن ان تقدمها شركات من هذا النوع. ومن الواضح ان ما يشجّع على التمدّد السريع لهذا النوع من الاعمال، يرتبط بالظروف والحقائق التالية:
اولاً - تغييب دور القطاع المصرفي عن السوق، بسبب الانهيار المالي القائم، وبالتالي بات هناك فراغ يسهُل ملئه.
ثانياً - ارتفاع كلفة التحويلات المالية. اذ كَشَفَت إحصاءات البنك الدولي أنّ كلفة تحويل 200 دولار اميركي من الولايات المتّحدة الأميركيّة إلى لبنان هي ثالث أغلى تكلفة (23.88 دولاراً) في العالم، أي ما يشكّل 11.94% من قيمة المبلغ المُرسَل.
ثالثاً - تَساهل السلطات النقدية في منح التراخيص لإنشاء هذا النوع من الشركات، استناداً الى ما تعتبره الحاجة اليها.
رابعاً - سهولة تأسيس هذا النوع من الشركات الذي لا يتطلب رساميل كبيرة، وكلفته التشغيلية متدنية، بما يحفّز الكثيرين على محاولة خوض تجربة الاستثمار في هذا النوع من الاعمال.
في موازاة هذه النقاط التي تشرح بشكل خاص أسباب نمو شركات التحويل الرقمي، هناك حقائق تدعو الى القلق، وتُنذر بعواقب وخيمة، من أهمها:
أولاً - اصحاب هذه الشركات في غالبيتهم لا يتمتعون بالخبرات المالية الكافية في الاسواق لممارسة هذا النوع من الاعمال.
ثانياً - مستوى الرقابة على اعمال هذه الشركات متواضع جداً، بحيث يكاد يكون غير موجود، بدليل انّ بعض هذه الشركات تخرق القوانين والمعايير التي ترعى عملها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك سقف للايداع والتحويل في هذه الشركات وفق القانون اللبناني المعتمد، يبلغ 3 آلاف دولار. لكن الشركات تخرق هذا القانون، وبعضها يُبلغ الزبائن ان لا سقف لحجم إيداعاتهم، وفي إمكانهم ايداع أي مبلغ يريدون، ومن ثم تحويله.
ثالثاً - مستوى الحوكمة والامتثال في هذه الشركات يكاد يكون معدوماً هو الآخر. ولا تطبيق للمعايير المتعارف عليها في القطاع المالي، مثل التأكّد من مصدر الاموال، او معرفة العميل (KYC).
مع التأكيد على وجود شركات مالية محترمة ومحترفة لا تنطبق عليها المخاطر الآنفة الذكر. هناك شركات عريقة، يقف وراءها محترفون في العمل المالي، وهي موجودة في السوق اللبناني منذ سنوات، وتعمل وفق معايير الحوكمة والامتثال (governance & compliance). كما انّ هناك شركات تقف وراءها مؤسسات مالية او مصرفية، وهي بدورها تتمتع بمزايا الشفافية والانضباط، ولا توجد مخاطر استثنائية في شأن دورها. لكن المشكلة تكمن في شركات تنمو مثل الفطر، وهي تكاد تكون مجهولة الهوية لجهة المساهمين فيها، وخبراتهم وسجلاتهم في هذا المجال. وبالتالي، لن يكون آمناً ان تتحوّل هذه الشركات الى ما يشبه المصرف، وتقبل بإيداعات كبيرة يمكن تصنيفها بأنها أصبحت ودائع. هذا الامر يُنذر باحتمالات حصول مفاجآت غير سارّة في المرحلة المقبلة.
بالاضافة الى هذا الخطر، لا بد من التركيز على مسألة يخشاها الجميع تتعلق باحتمال إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) في الخريف المقبل. واذا كانت المجموعة قد اشارت في تقريرها السابق الى انّ الامتثال والحوكمة في مصرف لبنان ولدى المصارف اللبنانية جيدة، ولا مشكلة فيها، وانّ الاشكالية ترتبط بضعف الجهاز القضائي، والاقتصاد النقدي العَصيّ على المراقبة، فإنّ ترك الحبل على غاربه لشركات تحويل الاموال الطارئة في السوق قد يؤدي الى مُعطى سلبي إضافي سيرجّح كفة إدراج البلد على اللائحة الرمادية.
ما هو مطلوب بسيط وواضح، ويرتبط بالسلطة النقدية التي تمتلك حق منح الرخص ومراقبة عمل الشركات. ومن الحيوي أن تبادر هذه السلطة النقدية الى اعادة النظر بشروط منح الرخص، خصوصاً لجهة التأكّد من هوية المؤسسين، ومن قدرة المؤسسة على تأمين جهاز كامل ومحترف لتطبيق الامتثال والحوكمة، والأهم ان تواصل هذه السلطة واجبها في مراقبة عمل هذه الشركات، للتأكّد من أنها تلتزم المعايير والقوانين التي ترعى عملها.