عاشوراء .. انتصارُ الحياة ومدعاةُ الثبات والرجاء
القاضي محمد وسام المرتضى

وزير الثقافة

Saturday, 20-Jul-2024 06:53
عاشوراء في أبعادِها الإيمانية والتاريخية والسياسية كافةً مأساةٌ عميقةٌ ما برِحَتْ أصداؤها تتردَّدُ في فضاءاتِ أربعةَ عشرَ قرنًا من عمر الأرض، وما زالت معانيها تتجدَّدُ زاخرةً بقيم الفضائلِ الكبرى التي بها تتحدَّدُ قيمةُ الوجودِ الإنساني.

في العام الماضي، ضمن خطابٍ لي بالمناسبة عينِها أجريتُ مقابلةً بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم وخروج الحسين عليه السلام، قلتُ فيها إنّ صراع الحقّ مع الباطل يأخذ له في الحياةِ إحدى وجهتين: فإمّا أن يتمَّ اجتنابُه ومهادنتُه إلى حين، كما فعل النبي(ص) حين هاجر من مكة إلى المدينة، وإما أن يواجَه ولو بالصدورِ العارية كما فعل سيّدُنا الحسين عند خروجِه من الكوفة إلى كربلاء. وفي كلا الحالين ليس النصر النهائي إلاّ للحقّ، مصداقًا لقولِه تعالى: ﴿وَقُلْ جَاْءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاْطِلُ إنَّ الْبَاْطِلَ كَاْنَ زَهُوْقًا﴾.

 

وكثيرًا ما كان هذا اليقين يثيرُ في نفسي تساؤلًا: لماذا الإصرارُ على اعتبار كربلاء مأساةً فقط، نقيمُ ذكراها بالحزنِ والتفجُّعِ على الحسين وأبنائه وصَحْبِه، وفي إيمانِنا أنه انتصرَ دنيا وآخرة، وهو الآنَ في جنةِ النعيمِ سيِّدُ شبابِها؟ صحيحٌ أنّ الفاجعة ببعدها الإنساني كانت فوقَ الخيال: أن يُقدمَ فاسقٌ منافقٌ دعيُّ خلافةٍ على قتل سبط النبيِّ وآلِ بيتِه الأطهار، بعد أن يمنعَ عنهم الماءَ والطعام، وأن يحتزّ رأس الحسين ويمشي به جندُه في موكب السبايا من كربلاء إلى الشام؛ وصحيحٌ أيضًا أنّ الفاجعة ببعدِها السياسي حالت دون أن تؤول السلطةُ إلى الحسين الذي استُشْهِدَ دونَ أن يتمكّنَ من إعطاء المثالِ الحيِّ على كيفية ممارستِها وَفقَ سُنّة جدِّه وتعاليمِ الإسلام السويّة السامية، فطُوِيَت في تاريخ الدين الحنيف صفحةً من المحكومية العادلة، من قبل أن تمسكَ لحقِّها زِمامًا؛ لكنَّ القيمَ الأخلاقيةَ التي يخرج من أجلها سيِّدُ الشهداء عليه السلام، والتي ينبغي لكلِّ سلطةٍ في العالم كلِّه أن تقومَ عليها، ما زالت إيّاها إلى اليوم، في صراعٍ مع باطلِ هذا الزمان، وعلى مواعيدَ من نصرٍ عليه وشيك. أفليس هذا كلُّه مدعاةَ رجاءٍ وثقة أقوى من الحزن من ناحية البعد الأخلاقي على الأقلِّ لفاجعةِ كربلاء؟

 

ولعلَّ الناظرَ اليوم إلى المواكبِ الحسينية من المقاومين الخارجين بفرحٍ إلى ميادين الجهاد، مردّدين بأعلى أصواتِهم: هيهاتَ منّا الذِّلة، مدركٌ تأثير هذه الثقة الكربلائية بأنَّ الحياة منتصِرَةٌ بلا ريب. ولا أعني بكلامي هنا الشيعةَ فقط، بل أيضًا وعلى قدمِ المساواة، المؤمنين بفضائل الحسين عليه السلام، من كلِّ أمةٍ وملَّةٍ تحت السماء، فليس سيِّدُ الشهداء لأهلِ بيتِه وأتباعِه فقط، بل لكلِّ لاهجٍ بقيم الحقّ والخير على امتداد عمر الأرض. وانتصارُ الحياة لا ينالُه إلا أبناؤُها الذين يعيشونَها بملْءِ جوارحِهم كما يليق بها أن تُعاش، حتى إذا ناداهم واجبُ الحقّ امتشقوا حتوفَهم وشحذوا أعمارَهم ومضوا إلى نصرةِ القيم حتى تخفق راياتُه على مساكبِ الدماء ومطارحِ الجهاد.

 

ويحضرني هنا قول أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: «اِعملْ لدنياكَ كأنكَ تعيشُ أبدًا واعمل لآخرتِك كأنك تموتُ غدًا»، فهو يدعونا إلى أن نعمل للدنيا أوّلًا أيّ للحياة كأننا لن نموت، وللآخرةِ من بعدُ كأننا لن نعيش. هذه الدعوةُ إلى الاهتمامِ بالحياة، تردادٌ للتكليف القرآني بعِمارةِ الأرض، وهي العمارةُ التي أقرَّ لها الفقه وجوهًا شتى، أهمُّها عِمارة الإنسان المعنويةُ لنفسِه، بالفضائل والأخلاق والقيم، وأعلاها الكرامةُ الوطنيةُ والشخصية. فالمقاومون إذن، هم أولًا عشاقُ حياة لأنفسِهم وللآخرين، لأن أعمارَهم مشاريعُ شهادة من أجل انتصار الحياة واستمرارِها في الأجيالِ القادمة. هم عشاقُ الحياةِ الحرّة الكريمة، مؤمنون بأنّ لكلِّ أحدٍ أن يتخطَّرَ في ساعاتِ أيامِها كيفما شاء، بشرطِ أن يبقى سيدًا على أمرِ نفسِه وأمورِ وطنِه، غير مجنّدِ لخدمة أعداء الإنسانية وغير مستَعْبَدٍ إلاّ للحقّ.

 

في الأزمات المصيرية التي تعبرها الشعوب، كثيرًا ما يكون الموتُ جسرًا إلى الحياة، خصوصًا متى كانت القيم العليا في خطر. لكن الأمر يكون بعكسِ ذلك عندما يصبحُ الموتُ سلعةً مجانيةً يُنزِلُها القتلةُ بالأبرياء، مثلما يفعلُ الصهاينةُ اليوم بأهل غزة. بالأمس القريب سقط تحت القصف الإسرائيلي، خلال ضربة واحدة لم تستغرق سوى بِضعِ ثوانٍ، أكثرُ من مئة مواطن فلسطيني بريء، بزعم ملاحقة القائد محمد ضيف. هؤلاء الصهاينة وأتباعُهم ومؤيدوهم من أبواقٍ وجهات ومؤسسات ودول، هم الذين لا يؤمنون بثقافة الحياة. هم الذين يمتهنون القتل من أجل القتل، في ساديةٍ تعجزُ أبجدياتُ العالم عن وصف همجيتِها. أما أهل غزة المحاصَرون عقودًا، والمحرومون من أبسط مقوِّمات العيش، الذين صمدوا طلبًا للحياة، فهم عشّاقُها ومستحقوها. ويستوي معهم في عشق الحياة جميع الحسينيين المقاومين على امتداد جبهات المساندة، وخصوصًا إخوانُنا في الجنوب البطل، الذي أراد الصهاينة أن يقتلوا فيه كلَّ مظاهر الحياة، فأذاقهم الويلَ والموتَ الزؤام.

 

خرج الحسين إلى الحياة العليا فدخلَها من باب الشهادة، وأقام يزيدُ في محضِنِ ظلمِه فكانَ عليه وبيلًا. وهذا التاريخ البشريُّ مكتظُّ بحوادثه التي تعبر مهرولاتٍ إلى مستقَرِّ النسيان أو الحنين، إلّا بعضًا قليلًا لا ينتهي بانتهاء يومه، بل يبقى عالقًا في ذاكرة الأجيال مهما تمادت في بعدها عنه. هذه تؤسسُ الزمان، كمثل كربلاء التي أسست لقيم الحياة الناهضة من الموت. من هنا، ليس الحسين عليه السلام سيدَ الشهداء فقط، بل سيدُ الحياة أولًا وأخيرًا، تلك التي تنبضُ في عروق أهلِ الكرامةِ والفداء.

 

وعلى القاعدة الثقافية الإيمانية الأخلاقية الحسينية، تنبني معادلاتٌ لا مفرَّ من الالتزام بها، منها:

-إنْ كنّا ضدّ اسرائيل وما تمثّله من خطرٍ وشرّ فنحن مع الحسين.

-إنْ كنّا مع فلسطين فنحن حتمًا مع الحسين، وإن تخليّنا عنها نكون قد خرجنا عن منهجه .

-إنْ كنّا متعلّقين بوحدتنا الإسلامية ووحدتنا الوطنية، وبمبدأ عيش المعيّة بين اللبنانيين، فنحن حتماً مع الحسين.

-إنْ كنّا مصرّين على اللقاء بالآخر المختلف والحوارِ معه بمحبةٍ وانفتاح فنحن مع الحسين.

-إن كنا متشبّثين بمصادر قوتنا المادية والنفسية، التي تحمي وجودَنا وبقاءَ وطننا، وفي طليعتها المقاومة، وإنْ كنّا أوفيّاء لشهدائها الأبرار أمينين على تضحياتهم، فنحن مع الحسين.

-إن كنّا مستمسكين بسيادتنا الفعلية على كامل ترابنا ومائنا وثرواتنا وسمائنا، فنحن مع الحسين.

-إنْ كنّا متطلعين لبناء دولةٍ كما يقتضي أن تكون عليه الدولة، دولة لكلّ اللبنانيين تليق بتضحياتهم جميعاً وبتطلّعاتهم، فنحن مع الحسين.

 

ومن لم يكن منّا ينظر الى الأمر كذلك، فليس له في الحقِّ وفي سيد الشهداء نصيب.

 

أما أهمُّ العِبَر التي تُستقى من واقعة كربلاء فهي المستمدّة من قولِ الإمام الحسين سيد الشهداء «مثلي لا يبايع مثله». ولعلّ البعض في لبنان وغيره في العالم محتاج جدًّا لأن يفهم أنَّ حجم ثباتنا في خياراتنا السياسية، لا سيّما في ما خصّ عدم الخضوع للصهاينة، نابعٌ من هذا الموقف الحسيني ومرتبطٌ به أيّما ارتباط، وأنّ لا تراجع لنا عنه لا لشيءٍ الاّ لأنّه ينسجم مع قيمنا وقناعاتنا ومع مقتضيات المرحلة الدقيقة التي يمرُّ فيها وطننا والمنطقة فضلاً عن أنّه يحقّق المصلحة العليا للشعب اللبناني.

 

على ذلك البعض أن يأخذ هذا في الإعتبار وأن يتلاقى معنا عبر الحوار بدلًا من التعلُّلِ بشعاراتٍ وخطاباتٍ لا شأن لها إلاّ أن تُرضيَ الخارج وأجندات الخارج. إذ علينا أوّلًا أن نتحرّر من التبعية وأن نجعل ثانياً الحوار قائدًا للعمل السياسي على ما دعا اليه مراراً وتكراراً دولة الرئيس نبيه برّي من أجل صالحِ الناس وخيرهم العام.

 

وليعلم القاصي والداني أننا على الصهاينة منتصرون، وأنّ مكائد التقسيم ستسقط، وأنّ عيش المعيّة سيُحفظ، وأنّ الوجود المسيحي في لبنان سيُصان، وأننا لن نُعطي البيعةَ لأعداء الإنسانية، وأننا رئاسياً لن نفبل الاّ بمن يرضى الناسُ عن تاريخه الناضحِ بتمسكّه بالوحدة الوطنية... إذ لن ننتخب الاّ المؤمن بانفتاح المسيحيين والمسلمين بعضهم على بعض، الواعي لخطر اسرائيل على الوجود المسيحي في لبنان ومن ثمّ على الصيغة اللبنانية وعلى لبنان الكيان، المتمسّك بقرار حفظ المقاومة باعتبارها الوسيلة المحرّرة للأرض الرادعة للعدو المسقطة لمكائده الشيطانية، الراسخ في ثباته على العروبة وفي انحيازه البطوليّ إلى الحق في صراعه مع الباطل. وفي الخلاصة «فإنَّ مِثلنا لن يبايع الصهاينة وفي الآن عينه لن يقبل الاّ مثل ذاك الرئيس» .

 

فيا سيدي الحسين

السلام عليك يا أبا عبدِالله،

على شهادةٍ كانت محرابًا لكرامةِ الحياة،

على دمٍ سقى الفضائل فأينعَ ثمرُها،

على ميراثِ بطولةٍ، حملتَه كابرًا عن كابر، وسلّمتَه لمن كان أكبرَ من سلطان الظلم القاتل المجرم، وها اليومَ ميراثُك حيٌّ في كلِّ أصقاع الأرض، برغم سيوف القاتلين المجرمين.

على كلِّ خُلُقٍ حميدٍ عشتَ في رَيْحانِه، ونشرتَه فينا.

على الأرواح التي حلَّت بفِنائك، وأناخَت برَحْلِك واتَّبَعت صِراطَك المستقيم.

السلام عليك يا سيدي ومولاي، سلامًا سيظلُّ يتردَّدُ على ألسنةِ محبيك وفي أعمال المنتمين الى منهجك ما بقي الليلُ والنهار.

الأكثر قراءة