دعا النائب علي فياض، خلال مشاركته في مؤتمر «التجدد للوطن» بعنوان «لبنان في ظل النظام الإقليمي الجديد»، إلى «منهجية جديدة في مقاربة الأزمة اللبنانية على قاعدة تَبادل الهواجس والضمانات من أجل إعادة بناء التفاهمات الوطنية».
قسّم النائب فياض مداخلته إلى ثلاثة عناوين كبرى: العنوان الأول خارجي وفحواه انّ "المنطقة أمام صعود جيو استراتيجي لمحور المقاومة، مقابل تراجع لإسرائيل التي أصبحت أكثر ضعفاً بعد حرب غزة، وتراجع لأميركا التي فقدت قدرة إمساكها بملفات المنطقة، فخرجت من افغانستان، وعلى وشك الخروج من العراق بصفر نتائج"، واعتبر انّ "المَيل الطبيعي للأمور ان يُعاد تشكيل توازنات جديدة في الشرق الأوسط لا خرائط"، وانّ "التوتر في المنطقة سيكون محصوراً بالصراع مع إسرائيل".
العنوان الثاني تشخيصي لواقع الحال في لبنان، وفقاً لوجهة نظر فياض طبعاً، وضَمّنه الآتي: "الصيغة اللبنانية هَشة وبإمكانها ان تتحول سريعاً إلى أزمات مفتوحة، كما انّ هذه الصيغة قوية إلى درجة انه لا يستطيع اي مكوّن إحداث تغييرات فيها". وشَخّص هواجس الطوائف كالتالي:
"الهاجس السني هو الحفاظ على اتفاق الطائف وحمايته كَونهم يفترضون انه أعطى رئاسة الحكومة موقعاً مميزاً في البنية الدستورية.
الهاجس الدرزي هو الحفاظ على الدور وتفعيله في ظل حالة اللاإستقرار التي تهيمن على لبنان والمنطقة.
الهاجس المسيحي هو حماية الوجود واستعادة الصلاحيات والدور في ظل إشكالية التضاؤل الديموغرافي.
الهاجس الشيعي هو حماية الوجود في ظل المخاطر الإسرائيلية ولأسباب وطنية ومبدئية".
ورأى انّ "هواجس السنّة والدروز طبيعية، فيما هواجس المسيحيين والشيعة وجودية وتستدعي معالجةً من خارج المنطق الطبيعي للدولة"، واعتبر انه "في العام 1920 أخطأ قسم من اللبنانيين في قراءة النظام الإقليمي الذي كان قيد التشَكُّل، فدفع ثمناً سياسياً باهظاً على رغم أنه جَنى مكاسب أخلاقية ومعنوية، وأخشى في العام 2024 ألّا يقرأ قسم من اللبنانيين التحولات التي تجري على المستوى الإقليمي فيدفع ثمناً، ونحن لا نريد لأيّ قسم من اللبنانيين ان يدفع اي ثمن".
العنوان الثالث الحلّ للأزمة اللبنانية، ودائماً وفق تصور النائب فياض، وقد شدّد على فكرتين أساسيتين:
الفكرة الأولى: "إذا بَدّك تضلّ تقِلّي سلاحك بيرعبني وانا ما بدّي سلاحك، لن نصل الى نتيجة، لأنّ موضوع السلاح عندي هو موضوع وجودي، له علاقة بحاضري ومستقبلي. تعا نِتفاهم انا ويّاك على وظيفة هذا السلاح، لك كل الحق كلبناني ان اتناقش انا ويّاك في تبادل الهواجس والضمانات، ضَع هواجسك على الطاولة لأعطيك ضمانات، وأضع هواجسي على الطاولة لتعطيني ضمانات".
الفكرة الثانية: "تصلح علاقتنا بالحكومة اللبنانية كنموذج للاستلهام، نحن جزء من الحكومة، ولكن للحكومة خصوصيتها ودورها وموقعها التفاوضي وقدرتها على التحرّك، ولقد استفادَت من المقاومة ورسَمت الفاصلة بينهما، ونجحنا في استعادة المنطقة الاقتصادية الخالصة، وفي ترسيم الخط الازرق. ونحن في المقاومة لطالما نظرنا الى خطورة أن نسعى للمطابقة بين المقاومة والدولة، ولم نَسع الى أخذ الدولة او البلد الى تَموضع جيو استراتيجي على المستوى الاقليمي حيث نحن. وعلى هذا الأساس اعتقد ان الدور التكاملي لا الاحتوائي ولا التصارعي يَصلُح لنموذج تحتاجه الساحة الفلسطينية لمعالجة هذه الفجوة بين المقاومة والسلطة، ونحتاجه على المستوى الاقليمي لمعالجة العلاقات العربية - العربية".
وقد ارتأيتُ نقل القسم الأكبر والأساسي من مقاربة النائب فياض لسببين: الأول، كَون فياض من العاملين في مجال الفكر في "حزب الله" لا الشعبوية ويعكس بدقة رؤية الحزب وأهدافه. والثاني، على طريقة "إعرف خصمك" لتعرف كيف يجب مواجهته. وجوهر ما يقوله فيّاض في العناوين الثلاثة يكمن في التالي: محور المقاومة في حالة صعود على مستوى المنطقة، وعلى المسيحيين الذين تحوّلوا إلى رأس حربة في مواجهة محور المقاومة بعد الانكفاء النسبي للسنة والدروز أن يقرأوا جيداً هذا المُعطى، وانّ سلاح "حزب الله" غير قابل للنقاش، وما هو قابل للنقاش فقط وظيفة السلاح، ومُلمِّحاً الى أنه على استعداد لمناقشة هواجس المسيحيين ومَنحهم الضمانات التي تُريحهم وقاصداً، من دون ان يقول، اللامركزية، أي نُوافِق على اللامركزية ومناقشة وظيفة السلاح لكن شرط ان يتم وضع نزع هذا السلاح جانباً.
ومن خلال تحييده السنة والدروز كأنه يقول ضِمناً إنّ اي تسوية اليوم بحاجة لتفاهم مسيحي-شيعي بشكلٍ أساسي على غرار التفاهم المسيحي-السني في العام 1943، والتفاهم المسيحي-الدرزي في العام 1860، وانّ هذه التسوية يفترض أن تأخذ في الاعتبار ثلاثة عناصر أساسية:
العنصر الأول: انّ مَطلب نزع سلاح "حزب الله" غير واقعي ولن يتحقّق ولن يتخلّى الحزب عن سلاحه، وانه على المسيحيين ان يختاروا بين مواجهة من دون أفق، وبين تسوية تضمن لهم عدم استخدام هذا السلاح ضدهم.
العنصر الثاني: انّ مطلب المسيحيين باللامركزية لضمان ديموغرافيتهم مفهوم ومبرّر ولكن ترجمته لن تكون مجانية، فمقابل الموافقة على اللامركزية على المسيحيين الموافقة على بقاء السلاح.
العنصر الثالث: تطمين المسيحيين بأنّ الحزب لا يريد ان يكون الدولة، ولكن المطلوب من هذه الدولة ان تكون في حالة تكاملية معه لا صراعية، وهو يقول بهذا المعنى في حال أردتم أن تستمر الحالة الصراعية فستبقى الدولة مشلولة، ولن يسمح الحزب بأن تكون الدولة أداة ضده.
وبين سطور ما يقوله النائب فياض انّ أمام المسيحيين فرصة اليوم للموافقة على التسوية التي يعرضها، وإذا أخطأوا التقدير بانتظار تحولات الخارج فإنّ محور المقاومة الذي سينتصر لن يكون مضطراً إلى معالجة معادلة "الهواجس والضمانات"، إنما سيحكم على غرار النظام السوري بين عامي 1990 و 2005.
فالنائب فيّاض يقول عملياً انّ نزع سلاحه خارج النقاش، وانّ الدولة يجب ان تكون في حالة تكاملية مع المقاومة، وانّ هذه الدولة لن تتمكّن من مواجهة التحديات في حال لم تستند إلى قوة المقاومة، وانّ الأخيرة في حالة صعود جيو استراتيجي، ولكن بمعزل عن الخلاف في القراءة الإقليمية لجهة انّ حرب "طوفان الأقصى" أضعفَت محور المقاومة الذي دخل في مرحلة العدّ العكسي لدوره، وانه في حالة تراجع لا صعود، وانّ هذا التراجع سيتواصل حتى الانتفاء كَون إسرائيل المدعومة أميركيّاً لن تقبل باستمرار الدور الإيراني المهدِّد لوجودها، وبمعزل أيضاً عن الخلاف في توصيف وظيفة السلاح. فهل يوظّف لمصلحة لبنان أم المحور؟ ومن يتخِّذ القرار باستخدامه؟ علماً انّ التجربة دَلّت على انه سلاح للمحور لا للبنان. وبالتالي، وبمعزل عن كل ذلك فإنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بقوة: هل يمكن بناء دولة فعلية تُرسي الاستقرار وتوفِّر الازدهار في ظل عرض النائب فياض؟
والإجابة بالتأكيد هي كلا. والأمثلة أقوى دليل على ذلك، فالحالة التكاملية بين الدولة الإيرانية والحرس الثوري لم تحوِّل إيران إلى نموذج يُحتذى، والحالة التكاملية بين الدولة العراقية والحشد الشعبي المُقَونَن في الدستور لم يحوِّل العراق إلى نموذج يُحتذى، والحالة التكاملية القائمة أساساً في لبنان منذ العام 2011 بين الدولة و"حزب الله" لم تحوِّل لبنان إلى نموذج يُحتذى، وجُلّ ما يعرضه فيّاض هو تحييد المسيحيين وإخراجهم من المواجهة مع الحزب على غرار الكتلة الأكبر من السنّة والدروز، ومُتكئاً على التفاهم السعودي-الإيراني، والذي سيتوسّع على حدّ قوله، لإبقاء السنّة خارج الصراع، ما يعني انّ المسيحيين لن يجدوا حليفاً إقليمياً ولا داخلياً وازِناً لكي يكون إلى جانبهم في المواجهة مع محور المقاومة.
وأهمية المقاربة التي قدّمها النائب فياض تكمن في بُعيدن: الأول انه أعاد التأكيد لمن لا يريد ان يسمع بأنّ سلاح "حزب الله" غير قابل للبحث والنقاش، وانّ رهان من لا يريد ان يسمع هو على لا شيء او على وقت مفتوح او على تحولات انقلابية في المشهد الخارجي، ولا مؤشرات قريبة لذلك. ما يعني انّ المطالبة بتطبيق الدستور والقرارات الدولية لن تجد طريقها إلى التنفيذ، ويعني انّ المزيد من التمسُّك بالصيغة القائمة يخدم "حزب الله" كَونه يمارس دوره من دون ضوابط ولا كوابح. والبُعد الثاني انه بادرَ إلى فتح باب النقاش في جوهر الأزمة اللبنانية، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجب ملاقاته في منتصف الطريق؟ وهل حان الوقت لفتح هذا النقاش؟ وما المقاربة المضادة المُفترَض تقديمها كون العرض المقدّم من قبله لا يبدِّد الهواجس ولا يعطي الضمانات؟ وهل يتراجع عن مبادرته بفتح النقاش بحجّة انّ ما أعلنه يعبِّر عن شخصه لا حزبه، وتحديداً عندما يجد انّ الفريق المقابل لا يكترث، وفقاً لتجربته التاريخية الطويلة، بمعادلة "take it or leave it"؟
يُتبع...