تتجه الانظار مجدداً اليوم نحو جلسة مجلس الوزراء التي في حال تمكّن الوزراء من الوصول الى السرايا وانعقدت، يتوقع ان تبتّ بمخرج لأزمة القطاع العام. فهل تشهد مقررات اليوم انفراجاً وتعليقاً للاضراب العام أم يستمر الشلل؟
بعد الاضراب العام الذي شمل كل إدارات الدولة، أُعيد خلط اوراق التقديمات للقطاع العام لتشمل الجميع وليس تقديم فئة على اخرى، مع التشديد على ابقاء سقف الانفاق على رواتب القطاع العام على 5800 مليار ليرة شهرياً، لأنّ اي زيادة عن هذا السقف من شأنها ان تهزّ سوق الصرف. ورغم ان لا صيغة معلنة او نهائية كان كشف عنها أمس، الا انّ المعطيات تتحدث عن اعادة توزيع بين الفئات اي الأخذ من الفئات العليا واعطاء الفئات الدنيا والمتقاعدين، ما حَتّم بعض التعديلات على الصيغة التي كانت مطروحة على جلسة مجلس الوزراء منذ نحو ثلاثة اشهر، وقد حالَ اعتصام العسكريين دون انعقاد مجلس الوزراء، وتالياً البَت بها.
وفي السياق، كشفت مصادر مطلعة في وزارة المالية لـ«الجمهورية» انّ الاخيرة قدّمت عدة اقتراحات حلول مرفقة بكلفة كل واحدة منها، على ان يعود البَت في الصيغة النهائية التي ستعتمد الى مجلس الوزراء. وإذ رفضت المصادر الكشف عن السيناريوهات المطروحة تجنّباً لضياع الموظفين، وتجنّباً لأيّ ردة فعل خاطئة في الشارع لصيغة قد لا تعتمد، أكدت انّ متى انعقد مجلس الوزراء سينظر في رواتب القطاع العام وهذا ما يفسر ادراجها كبند اول في جلسة مجلس الوزراء.
وأكدت المصادر انّ ملف القطاع العام مُتشعّب ما بين الاداريين والموظفين والمتقاعدين والعسكريين، وفي الوقت نفسه معالجته دقيقة جداً، إذ يجب ان يكون الحل الذي ستخرج به الحكومة مقبولاً من الجميع، خصوصاً بعدما تبيّن انّ إرضاء فريق على حساب آخر سيزيد من تفاقم الأزمة، لذا هناك عدة مَساع ليكون الكل راضياً.
وكانت الأمانة العامة لمجلس الوزراء قد أعلنت جدول اعمال الجلسة الحكومية التي تتضمن 27 بندا، وينص البند الاول على إعطاء تعويض مؤقت لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين الذين يستفيدون من معاش تقاعدي وتعويض النقل الشهري المقطوع للعسكريين.
عودة العقارية الى العمل؟
وفيما يبدو جلياً انّ عدم القدرة على رفع إنفاق الدولة يعود لمحدودية ايراداتها التي تحول دون رفع رواتب القطاع العام، يعود الطرح الداعي الى فتح الادارات العامة التي تدر اموالاً على الخزينة وعلى رأسها الدوائر العقارية، النافعة، الميكانيك.... فما السر اللغز وراء استمرار إقفال الدوائر العقارية؟
في السياق، تؤكد المصادر انه ما ان يعود موظفو القطاع العام عن اضرابهم وتنتظم الامور، حتى تبدأ نتائج فتح الدوائر العقارية، انما ليس أمام العموم، بالظهور. وأكدت المصادر ان الدوائر العقارية عادت الى العمل لكن من دون استقبال المواطنين، لأنها تَنكبّ على انهاء المعاملات القديمة العالقة. وأكدت ان نتائج هذه الاعمال ستبدأ بالظهور تباعاً. كما كشفت المصادر انه بعد تعليق موظفي القطاع العام اضرابهم، سيتم الاعلان عن بعض التسهيلات المتعلقة بالمعاملات العقارية التي من شأنها ان تخفّف الضغط عن هذه الدائرة وتُسهّل امور المواطنين.
زيادة الانتاجية ام الرواتب؟
الى ذلك، وبعدما جرى الحديث مؤخرا عن وجهتي نظر في معالجة أزمة المرفق العام، إحداها تفيد بزيادة رواتب القطاع العام اولاً فيعلّق الموظفون إضرابهم بحيث تشكّل عودتهم الى العمل سبيلاً لرفع ايرادات الخزينة، بينما تفيد الوجهة الثانية بضرورة زيادة الانتاجية في القطاع العام الذي من شأنه ان يرفع ايرادات الخزينة، وتالياً تدفّق المزيد من الاموال في الخزينة، فيستحق عندها الموظفون الزيادة. فمن وجهة نظر اقتصادية أيّهما الافضل اعتماده؟
في هذا السياق، تقول مصادر مطلعة لـ«الجمهورية»: قد يكون موظفو الدولة مظلومين الا انهم باتوا يشكلون عبئا كبيرا على النهوض الاقتصادي، وقد بات جلياً انّ كل قرش «يطلعه» البلد يَمتصّه القطاع العام، ونحن اليوم نعيش نفس نموذج العام 2019 إنما على فقر. ففي تلك الفترة امتصّت الدولة الثروات والمداخيل وهي تُعاود الكرَّة اليوم انما لم يعد هناك ثروات لشفطها لأنّ الودائع تبخرت، لذا نراها تسعى لسحب المداخيل. ألم تَقم الموازنة ببنودها الضرائبية والرسوم الموجعة بتشليح ما تبقّى من أموال في جيوب الناس؟ وهي بذلك تمنع القطاع الخاص من الاقلاع والنهوض مجدداً كذلك تمنع الشباب من ابتكار فرص عمل والنهوض بالاقتصاد. وأكدت المصادر انّ القطاع العام اليوم يحتاج الى «نَفضَة»، وقبل الحديث عن خطة النهوض الاقتصادي فلنبدأ بخطة نهوض للقطاع العام المترهّل وترشيق الادارة.
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي كمال حمدان لـ«الجمهورية» انّ مشكلة القطاع العام ليست بجديدة ولطالما استخدمها السياسيون كمطية لشراء الولاءات الطائفية والمذهبية. أما وانّ المصيبة قائمة والطبقة السياسية مسؤولة عنها، فنظهر منها انّ لدينا أدنى معدّل عدد طلاب للاستاذ الواحد في التعليم الرسمي، أعلى نسبة للعاملين في قطاع النقل من مجموع القوى العاملة وليس هناك من نقل عام، أعلى نسبة عسكر وقوى أمنية الى القوى العاملة والاحداث الامنية متنقّلة من الحدود الى الجرائم والفساد... كل هذه المعطيات تؤكد ظهور حجم المشكلة في القطاع العام.
وتابع حمدان: أمام الانهيار المالي الذي شهدناه في السنوات الاخيرة حلَقَت السلطة للناس على مستويين: «شَفطوا» الودائع والمدخرات من جهة، وقضموا الى النصف او الخمس او السدس قوّتهم الشرائية من العمل، ما جعلهم امام مصيبة مزدوجة.
انطلاقاً من ذلك، لفت حمدان الى انّ حجم الاسرة وسطياً بات يتراوح اليوم ما بين 3.6 و 3.8 كعدد أفراد، وهذه الاسرة كي تتمكن من العيش عند خط الفقر الاعلى تحتاج الى ما بين الـ1000 والـ 1200 دولار شهرياً مع فرضية انّ في كل اسرة 1.2 ناشط يعمل فيها. بينما كي تعيش هذه الاسرة عند خط الفقر الادنى فيجب ان يكون مدخولها 800 دولار. أما كي تعيش عند خط الفقر المدقع، أي مأكل ومشرب فقط، يجب ان لا يقل مدخولها عن 400 دولار. وتساءل: أين هي اليوم رواتب القطاع العام من هذه المعدلات؟
وذكر حمدان انّ الحد الادنى للاجور في العام 2019 قبل الأزمة كان 675 الف ليرة اي نحو 450 دولاراً، بينما اليوم، قبل المضاعفات الموعود فيها القطاع العام، يصل الراتب الى ما يعادل 9 ملايين ليرة، بينما الضمان الاجتماعي لا يعترف براتب اقل من 20 مليون ليرة.
بناء على هذه المعطيات، يتبيّن انه لا يمكن الاختيار بين أيّهما يسبق رفع الرواتب او زيادة الانتاجية، لأنّ كليهما حاجة ضرورية.