في ذكراهُ التاسعة عشرة تعود بيَ الذاكرة مع صاحب الذكرى إلى الثاني عشر من آذار 1984 يـوم كان مؤتمر الحوار اللبناني في مدينة «لوزان» السويسرية، وفي أوائل عهد الرئيس أمين الجميل.
إلتأمَ هذا المؤتمر وقد جمع معظم قيادات البلاد، في ظلّ صراعات ميليشياوية وطائفية دامية أدَّتْ إلى انقسام مؤسسة الجيش وانهيار سلطة الدولة، وكان لا بدّ من الإتفاق على مخارج سياسية ودستورية لوضعِ حدٍّ لمجازر الحرب.
كانت هناك أوراقُ عمل معدّة للمؤتمر: واحدة من قبل العهد وأخرى للفريق المسيحي، وثالثة للفريق المسلم، وكانت كلُّ واحدةٍ متعارضةً مع الأخرى.
لم أكن يومها أعرف الشيخ رفيق الحريري، بقدر ما كان يعرف عنّي أنني الأقرب إلى الرئيس أمين الجميل ووالده الشيخ بيار الجميل، إلى جانب كوني مديراً عاماً لإذاعة «صوت لبنان» تلك التي كانت تحتلّ المرتبة الأولى في المجال الإعلامي بعد تفكّك الإذاعة اللبنانية والإعلام الرسمي.
عشِّيَةَ المؤتمر تلقيتُ اتصالاً من الشيخ رفيق الحريري والتقينا في جناحه الخاص في الفندق الذي يستضيف المؤتمر، وعرَض عليّ مشروعَ ورقـةِ عملٍ يكاد يكون صورةً مصغّرة عما تمّ الإتفاق عليه في الطائف سنة 1989، وقد تمنىّ عليّ التمعُّن في تفهّم الجدوى من هذا المشروع إحتياطاً لما قد يلقاهُ من معارضة لدى الزعماء المسيحيين.
ولمّا كان هذا المشروع يتناول في ما يتناول تجيير صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً رغبتُ إليه أنْ يُطلعَ الرئيس سليمان فرنجية عليه، وفي حال نال موافقته فإنني أضمن موافقة الرئيس أمين الجميل والشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون معاً.
وحين عُرِضَ هذا المشروع على الرئيس فرنجية بحضور الأستاذ رامز الخازن، قوبِلَ بالشجبِ والرفض فتخلَّى الشيخ رفيق عن مشروعهِ، وكأنما أُرجىءَ إلى أجَـلٍ غير مسمَّى.
لعل الشيخ رفيق كان يستشرفُ مغبّةَ الزمنِ اللاَّحق حين شاء أن يستدرك بالدواء المرّ خطورة تفشّي المرض، وصحَّ ما توقَّع، فكان في استفحال القتال إنتشاراً قاتلاً للمرض، وذلك المشروع الذي أُرجىء في مؤتمر «لوزان» إلى أجَلٍ غير مسمَّى، أصبح أجَلاً مسمّى في مؤتمر الطائف.
كأن طوالع مؤتمر الطائف كانت ترصدُ أيضاً لقـاءً لي مع الشيخ رفيق الحريري.
يومها كنت في باريس وكان الزعيم كاظم الخليل يستقرُّ فيها في دارةِ إبنتهِ «مها» فكنتُ أقصدهُ يومياً بما كان بيننا من علاقة وُدٍّ حميمة كمثلِ ما كان مقصداً لسائرِ روَّاد العاصمة الفرنسية من نوابٍ وسياسيين لبنانيين.
قبل الطائف بأيام صودفَ وجودي مع الزعيم الخليل حين قام الشيخ رفيق الحريري بزيارتهِ مستفسراً منه عن توجهات النواب كتمهيدٍ لما يمكن طرحهُ في مؤتمر الطائف، وتمنَّى الحريري عليه أن ينقل إلى البطريرك الماروني نصرالله صفير بعضاً من العناوين العريضة لاتفاق الطائف.
ولما كانت هذه العناوين «عريضةً جداً» فقد شاءَ كاظم الخليل أن أتولَّى أنا الإتصال بالبطريرك صفير الذي كان حينها في روما.
وعند إجراء الإتصال وقبل استكمال مضمونهِ، ردَّ عليَّ البطريرك بصوتٍ متحسِّرٍ وقال: فليُقرِّروا ما يشاؤون، ولكن عليهم أن يوقفوا هذا السيل من النزف الدموي الماروني... وكانت يومها الحرب المارونية داميةً تلك التي عُرفتْ بحربِ الإلغاء.
وكان إلغاء الحريري جسداً، واستمرت الحريريَّةُ بعده بفعلِ نزفِ الـدم...
ولم يكنْ هناك إلغـاءٌ لحربِ الإلغاء المارونية فاستمرَّت إنْ لم يكنْ بالدمِ النازف فبالدم البارد.
هذا بعضٌ من الضوء أُلقيهِ على جانبٍ مكتومٍ خلال معرفتي الأولى بالرئيس الحريري، وقد توطَّدت منْ بعد العلاقةُ بيننا وكانت هناك لقاءاتٌ كثيرةٌ قد يكونُ لبعضِ خفاياها مجالٌ آخر.
لا بدَّ إنصافاً للتاريخ من الإشادة بالإنجازات الكبار التي حقّقها الرئيس رفيق الحريري، وهي بتميُّزِها الخارق تكاد تكون شبيهةً بتلك التي تمَّت على عهدِ الرئيس فؤاد شهاب.
ليس صحيحاً القول: إنَّ الأمَّـةَ لا ذاكرةَ لها، فقد أثبتت الذكرى التاسعة عشرة للرئيس رفيق الحريري حجمَ ما توارثهُ الرئيس سعد الحريري عن أبيه من حريرَّيةٍ لا بديل منها للوزن السنّي ولا غنى عنها للتوازن الوطني.