يوحي فريق بنيامين نتنياهو أنّ إسرائيل تستعد لخوض حروب متعددة الجبهات، وهذا يعني بالتأكيد فتح جبهة أخرى على حدود لبنان، في موازاة الحرب في غزة. كما يطرح احتمال اندلاع حرب في الضفة الغربية، بل الذهاب بعيداً إلى العراق واليمن وإيران، إذا بقيت جبهة سوريا هادئة. وتهديد نتنياهو قد لا يكون مجرد مناورة سياسية، بل يمهّد لحروب إسرائيلية عدة في آن واحد. لكنّ أسلوب هذه الحروب ربما يتغيّر.
إفتتح الإسرائيليون عام 2024 بتَحوّل واضح في طبيعة المواجهات التي يخوضونها. ففيما حربهم على غزة مستمرة بوتيرة الاستنزاف، عمدوا في غضون أيام قليلة إلى تنفيذ روزنامة مزدحمة بالاغتيالات، وفي دول عدة:
إغتيال رضي الموسوي في دمشق، تصفية صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية، واغتيالات جديدة لكوادر من «حزب الله» في الجنوب. ونفذت طائرات أميركية عملية تصفية لكوادر من «الحشد الشعبي» في بغداد. وعلى رغم عدم تبنّي أي طرف لعملية التفجير التي استهدفت مكان الاحتفال بذكرى قاسم سليماني في كرمان - إيران، قبل يومين، فإنّ «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» اتهم إسرائيل والولايات المتحدة بالوقوف وراء العملية.
حملة التصفيات هذه تؤشّر إلى طبيعة المرحلة الجديدة من الحرب، المتعددة الجبهات، التي أعلنت عنها إسرائيل. فنتنياهو يدرك جيداً أن خوض الجيش الإسرائيلي حرباً كلاسيكية ضد جيوش وتنظيمات عدة في آنٍ واحد، على جبهات مختلفة، هو أمر صعب جداً. ولذلك، هو اختار السيناريو الأسهل والأقل كلفة: في غزة تستمر عملية التدمير والتهجير بوتيرة الاستنزاف حتى إشعار آخر، فيما يجري التعاطي مع الجبهات الأخرى بأسلوب العمليات الخاطفة والتصفيات.
وأهمية هذا السيناريو تكمن في أنه يمكن أن يحظى بتغطية واشنطن وحلفائها الأطلسيين. فإدارة الرئيس جو بايدن أبلغت نتنياهو بأنها ليست مستعدة لتأمين التغطية السياسية، والتغطية بالسلاح والذخائر والمال بلا حدود، وإلى ما لا نهاية، في غزة. كما أنها ترفض تماماً أي مغامرة عسكرية إسرائيلية في لبنان، لا لضرورات سياسية فحسب، بل أيضاً لأنّ الغربيين لا يستطيعون وضع كل إمكاناتهم في خدمة إسرائيل، فيما ينصرف الروس إلى التلويح جدياً بحسم المعركة في أوكرانيا وإخضاعها والعديد من دول أوروبا الشرقية. ولتأكيد هذا الموقف، سحبت واشنطن حاملة الطائرات جيرالد فورد من المتوسط وأعادتها إلى القاعدة التي انطلقت منها في تشرين الأول الفائت.
الخطة العسكرية الإسرائيلية الجديدة تسمح لنتنياهو بإطالة أمد المواجهة لشهور أو سنوات. وفي غضونها هو سينتظر على الأرجح إمرار استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية وسيراهن على عودة دونالد ترامب إلى السلطة. وهذا الاحتمال كبير. وحينذاك، يريد نتنياهو أن تعود كلمته مسموعة في البيت الأبيض ومَطالبه مُستجابة.
لذلك، رهان الوسطاء على وقف الحرب في غزة ليس في محله، لأن نتنياهو مستفيد من استمرارها على كل المستويات. لكن المفارقة هي أن «حماس» أيضاً ترفض إنهاءها قبل تحقيق أهداف سياسية. وفي المقابل، التخوّف من حرب واسعة على الحدود الإسرائيلية مع لبنان يبدو في غير محله لأن لا مصلحة لا لإسرائيل ولا لـ«حزب الله» في اندلاعها.
في تقدير «حماس» أنّ الحرب التي كلّفت حتى اليوم 23 ألف قتيل و50 ألف جريح، ودمّرت جزءاً واسعاً من القطاع، وهجّرت نصف أهله خارج منازلهم، وكثير منها مهدّمة كلياً أو جزئياً، لا يمكن أن تتوقف اعتباطياً. وفي الواقع، إذا توقفت هذه الحرب، فستواجه «حماس» معضلة كبيرة: من سيتكفل ببناء المنازل والمنشآت والبنى التحتية المدمرة، بكلفة مليارات الدولارات؟ وكم سيستغرق ذلك؟ وإذا كانت «حماس» ستحافظ على حكمها لغزة بعد الحرب، فهل ستوافق القوى الدولية على تمويلها أم ستشترط زوال سلطتها أولاً؟
هذا الأمر مطروح بجدية، في سياق السؤال عن اليوم التالي في غزة. فالقوى الغربية تفضّل تسليم غزة لإدارة الحكم الذاتي الفلسطينية أو إجراء انتخابات عامة تفرز قيادة جديدة تتولى شؤون المناطق في الضفة والقطاع. لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن استطلاعات للرأي أُجريت أخيراً، أظهرت نمواً لافتاً لشعبية «حماس»، مقابل تراجع لشعبية «فتح»، حتى في الضفة الغربية والقدس. وهذا يعني أن أي انتخابات تجرى حالياً ستمنح «حماس» لا «فتح» الأولوية في إدارة المناطق الفلسطينية كلها، وهذا أمر يثير القلق في إسرائيل والغرب. وهو دافِعٌ إضافي لتُواصل إسرائيل الحرب، لعلها تستطيع القضاء تماماً على «حماس» فيصبح ممكناً إمرار التسوية من دونها.
إذاً، في غزة، ستستمر حرب الاستنزاف ولا مجال للسلام في موعد قريب. وأمّا في لبنان فستستمر حرب الاستنزاف، ولكن لا حرب في موعد قريب.