فلسفة الواقع والخيال بين أفلاطون وأرسطو
نسرين بلوط
Saturday, 30-Dec-2023 07:04

قد ينشقُّ الواقعُ عن احتمالاتٍ غير محسوبة، تماماً كما تتفجّر من الصخر الصلب عيونٌ من سيولٍ مباغتة، تحيي الجماد، وهذه هي العلاقةُ الحاسمة التي تناولَ جوانبَها ونوابضَها عددٌ من الفلاسفة. منهم من آمن بالحجر والماء والتراب والهواء كمكوّناتٍ أساسيّة لتفعيل جاذبيّة الخيال وإضفاء ظلاله على سماء الواقع، ومنهم من تنكّر لفكرة هذا التمازج العشوائي بينهما حسب منهجيّة فلسفتهم، وحسمَ نظريّته بأنّ الواقعَ هو أساس الاقتباس والالتباس والخير والشر في دوران الكون، وأنّ كلّ العناصرَ الحياتيّةَ المتفاعلة فيه هي جزءٌ من حتميّة العقل والمنطق، وبوحٌ للفضائل والمدائح المثاليّة، تماماً كما أقرّ أفلاطون في جمهوريّته الفاضلة التي أقصى عنها الشعراء وقرّب إليها الحكماء، وأدخل فيها تلامذته الذين رسّخ بعضهم معتنقاته، وعارض عدداً من ميزاتها البعض الآخر.

على عكسه، تماهى أرسطو بمفهوم تبنّي الجوهر قبل الفكر، لأنّه يعتبر حافزاً أساسياً لتشكيل كلّ الأشكال والأفكار، وتبديد الشكوك الحائمة حول أهميّتها وأحقيّتها في التبلور من مراحل التشكيل الى الولادة ومن ثمّ التبجيل وضمّها إلى مثاليّات الوجود.

 

لعبت سيكولوجيا الفضول لدى هذين الامبراطورين على عرش التفلسف دوراً حادَّ الأبعاد بين الاستكشاف والاختلاف، فقد سعى كلٌّ منهما إلى تحرير روحه من أعباء الشلل المستسلم لروتين الحياة، وقد قال أرسطو في وصفه للتقلّبات الانسانيّة التي تتماوج في انقلابٍ مستمر:

 

ما دام أنّ السعادة على حسب تعريفنا: هي فاعلية ما للنفس مسيرة بالفضيلة الكاملة، يجب علينا أن ندرس الفضيلة، وسيكون هذا وسيلةً عاجلةً لتجديد فهم السعادة ذاتها أيضًا.

 

وبعكسه، شدّد أفلاطون على مصدر السعادة النابعة عن العدالة الاجتماعيّة والتي كانت بنظره خالدة ومستمرّة رهن النظام الانضباطي والأخلاقي الذي يتوارثه الانسان عن بيئته أو يتعلّمه ويتدرّب عليه، وقد وصف هذه السعادة على أنّها تتمثّل في معرفة الخير والشر، وقد وجد أنّ الشعرَ يهدّد هذه النشوة المسبّحة في فضاء التأمّل لأنّه افسادِ لمواهب الشباب حسب توصيفه، وقد خفّف قبله سقراط قليلاً من وطأة هذا الهجوم الشرس على الشعراء من خلال منحهم خيار التوقّف عن كتابة الشعر أو طردهم من جمهوريّة المثاليّة التي شيّدها من أعماق الميتافيزيقيا الانتقائيّة، ودعّمَ هياكلها بالمزيد من الجدل القائم على جدلٍ آخر وهكذا دواليك، ولكنّ أرسطو أعاد اعتبار الشعر وفنون الكتابة من خلال نظرية المحاكاة التي تلبّس أصول طرحها.

 

بين العقل والعاطفة تنازع وتضاربٌ يشبه لعبة أحجار النرد التي تتقدّم بأحجارها منتصرة لأحدهما ثمّ تتأخّر أمام هزيمة مباغتة، حتى تفاجئها السقطة الأخيرة لتعود اللعبة الى نقطة البداية وتسعى للنهاية من غير كلل. وهكذا، فقد صنع كلِّ من أفلاطون وأرسطو مدينته الفاضلة التي صوّرتها له مخيّلته ودعمتها قوّة حججه وبراهينه، ويبرز الفرق بينهما بنتوءاتٍ مدبّبة تظهر ثمّ تختفي ولا تلبث أن تعاود التجلّي أو التخفّي. وهذا التجاذب يتبدّل ولكنّه يصبّ في خانة التصحيح والتثبيت لأعماق الفلسفة الوجوديّة التي تدعو للتفكير العميق لإثبات هويّة الأحياء لأنّ الأموات حسب وصف أرسطو هم من شلّت عقولهم عن التفكير واتّجهت للخمول الحسّي والرغبات الجسديّة الجامحة ولم تستطع فصلَ الروح عن ماديّة الجسد. وقد ردّ أرسطو على أحدهم عندما سأله عن مغزى مخالفته لأفلاطون في العديد من النواحي الفكريّة بما معناه أنّ الصداقة لا تعني التوافقَ الكلّي في كلّ جوانب العقل. ويبقى اسما أفلاطون وأرسطو مدرسة تُحتذى وتثير جدلاً في كلّ عصور الانسانيّة القديمة والحديثة لتتحدّى العلمَ لاحقاً وتؤسّس لنظريّات أخرى.

الأكثر قراءة