«إميل إدّه (1884-1949): رائد لبنان الكبير» لـ رياض نخّول
د. أندريه نصار

أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

Wednesday, 06-Dec-2023 07:50

يسعى الدكتور نخّول في كتابه هذا إلى «تقديم قراءة جديدة للوثائق والمستندات التي يمكن تأمينها من لبنان وفرنسا، تُظهر أبعاد سياسة إدّه اللبنانيّة وفق مبدأ اللبننة في إطار العروبة، بعمق قومي وفهم شمولي وبعد استراتيجي». (المقدّمة، ص 17).

إذاً، لقد كلّف الدكتور نخّول نفسه بمهمّة تتطلّب الكثير من الجهد والتمحيص والدقّة، بغية التوصّل إلى إظهار الصورة الحقيقية لإميل إدّه الذي كرّس معظم حياته للعمل من أجل «لبنانه» الذي يريده لبنانيّوه لا الآخرون. لقد كلّفه ذلك خوض معركة طويلة على جبهتين: داخليّة متمثّلة بقوى سياسيّة تتنازعها رغبات وطموحات تتغلّب عليها المصالح الشخصيّة والطائفيّة على حساب المصلحة الوطنيّة. وخارجيّة تتصارع من أجل المحافظة على وجودها المقنّع بمبدأ الانتداب، بحجّة حرصها على مصالح الشعوب المنتدَبة و»ترقيتها» لتصبح قادرة على حكم نفسها بنفسها.

بين خطّي المواجهة هذين، وجد إميل إدّه نفسه يصارع، محاولاً عدم قطع خيط التواصل معهما.

برز دوره كرجل دولة منذ الحرب العالميّة الأولى، حين اختلف مع السلطنة العثمانيّة، وناهَضَ سياستها، وقام بأنشطة سريّة، وقاد حركة معارضة لها بالتنسيق مع بعض الشخصيّات، تكلّلت بتأسيس «الجمعيّة اللبنانيّة في بيروت» التي كانت تسعى إلى توسيع حدود لبنان والمطالبة بالاستقلال. ولم يغب دور إدّه الفاعل في أعقاب نهاية الحرب الأولى، فكان عضواً فعّالاً في الوفود اللبنانيّة إلى مؤتمر الصلح، ولا سيّما في الوفدين الأول والثاني. لم يَحِد في مشاركته في هذين الوفدين قيد أنملة عمّا كان يطالب به، وتصدّى بشجاعة للحركة الصهيونية الناشطة التي تمكّنت من إقامة شبكة علاقات بين الأطراف المتنافسة. وكان يشدد في الوفدين على ضروة قيام دولة لبنانية مستقلّة، لا تخرج من محيطها العربي، ولا تخلق حالة عدائية مع الغرب.

بغضّ النظر عمّا تمكّنت الوفود الثلاثة من تحقيقه للبنان، بقي إميل إدّه الرجل السياسي الناشط المدافع عن لبنان، حتى في المرحلة الانتقالية التي خضع فيها لبنان للانتداب الفرنسي منذ العام 1920. في هذه الحقبة الجديدة من تاريخ لبنان المعاصر، كثّفَ نشاطه السياسي، وخاض معارك جديدة، تمثّلت في موقفه من هويّة حاكم لبنان، وموقفه من الطرح الفدرالي. ولعل حضوره البارز تجلّى من خلال دوره في المجالس التمثيلية، فكان عضواً فعّالاً في لجنة الإصلاح الإداري، تلاه انتخابه رئيساً للمجلس التمثيلي الأوّل، ثمّ دوره في وضع الدستور اللبناني وإرساء الجمهوريّة في العام 1926، ودوره البارز أيضاً في مجلس الشيوخ والنوّاب بين عامَي 1926 و1929، والمشترع في وزارة 1929 حتّى تَسلّمه الرئاسة. وتجلّت في هذه المرحلة ميزته كحقوقي من الطراز الرفيع، فقد سَخّر خبرته وذكاءه وحنكته في خدمة وطنه، وإرساء الأسس الصالحة لبناء دولة حديثة.

إنّ المؤهّلات العالية التي تمتّع بها إميل إدّه هيّأته ليكون على رأس الدولة، فانتُخِب رئيساً للجمهوريّة في العام 1936. أظهر إدّه كرئيس قدرة عالية على قيادة الدولة. هنا، مرّة جديدة، عرف كيف يدير العمليّة السياسيّة في وطن تجمعه التناقضات أكثر ممّا تجمعه القواسم المشتركة. واستطاع الدكتور نخّول أن يبرز كفاءة إدّه في الالتفاف على الطروحات الوحدويّة، ووضع حدّ للأطماع الصهيونيّة التي لم تنفكّ يوماً عن المطالبة بجزء من الأراضي والمياه اللبنانيّة كحقّ تاريخي لليهود. لكنّ هذه الانشغالات لم تُثنِه عن السعي لتحقيق الإنجازات والإصلاحات الضروريّة، فحقق مع الحكومات التي تشكّلت في عهده مجموعة من الإنجازات المتمثلة بعدد من المشاريع والبرامج التنمويّة كانت البلاد بحاجة ماسّة إليها.

بعد انتهاء ولايته الرئاسيّة، وبدء الحرب العالميّة الثانية، برز دور إميل إدّه مجدّداً في التنافس الفرنسي ـ البريطاني عشيّة معركة الاستقلال. في هذه المرحلة، تبدّلت طبيعة الحركة السياسيّة مع تنامي دور بريطانيا التنافسي مع حليفتها فرنسا، واشتداد الصراع بينهما للسيطرة على مناطق وجود كل منهما. في ظلّ هذه المتغيّرات، باتت الساحة المحليّة عُرضة للتجاذبات السياسيّة الفرنسيّة ـ البريطانيّة، واحتدمت المواجهة بين المؤيّدين لإحدى هاتين السياستين، ولا سيّما الصراع مع بشارة الخوري، والتوجّهات البريطانيّة الوحدويّة، وانتخابات 1947 النيابيّة التي سَعت بريطانيا من خلالها للقضاء على دور إدّه السياسي، مترافقة مع قيام دولة إسرائيل وتداعياته، ووطنيّة إميل إدّه المعارضة لنشوء هذا الكيان.

لقد كان إميل إدّه، كما بَيّنه رياض نخول، رجل دولة وإصلاح، لم يتوان حتّى الرمق الأخير عن خدمة بلاده، على الرغم من الحملة الشعواء التي طالته في أعقاب قبوله الرئاسة في العام 1943

الأكثر قراءة