وأتيهُ في الأرض...
نسرين بلوط
Tuesday, 21-Nov-2023 06:21

وأتيهُ معِ السربِ وقد حَرّمتِ الأرضُ عليَّ خمارها وثمارها.. أتلفني العشقُ للوهمِ يسيرُ نجماً مغترًاً ببريقِ التّسديل.. عزفَ أغانيهِ على كمانٍ شجيٍّ حتّى ينهرَني عنّي.. لم يبرقْ إليَّ بصراً.. ما أمرَّ العمر حين يطوي حقائبَ الانكسارِ ويخبو.. يجتاحهُ إعصارُ الرحيلِ ويهدي عرشَهُ لجماجمِ الرؤى في وادي التضليل.. تخيّلْ بأنّي.. أرى جرحي جَهرةً وهو يشهقُ غارباً باختلاجةِ الصب.. كنحيبِ الدوالي في مساءٍ تشرينيٍّ بارد..أتيهُ في الأرضِ ابتساماتٍ غائمةً مثل الضبابِ المصبوبِ على رخامِ السماء.. يحتدُّ ويرتدُّ بلا توقيتٍ أو تعليل.. يَطليه البرقُ النافرُ من وشمِ الريحِ يدمدمُ نافراً.. أمّا انت.. فتبقى غائراً كالدمعِ في عينِ الشوق.. لا سبيلَ إليكَ ولا رجعَ لخطاكَ في وحدتي السادرة.. وتأمّلْ..في الرّيحِ أنفاسُ الخريفِ تتدلُه بأحراجِ السهد.. تدمدمُ بشجونِ العمرِ وتجدلُ رؤاها في سجعِ الأيّامْ.. تأمّلْ.. لأيلولَ مفاتيحُ الحنينِ تقلقلُ بمقبضِها غضبى.. متزمّتةً في وجهِ النسيانِ والصفعِ والبرد.. ما حاجتُنا إلى الرحيل؟..لا غربةَ ستعصمنا أو تأوينا.. ولا وجهةَ تروّجُ لعبورنا.. ولا عاصمَ في المدنِ منَ الأشواق.. فتريّثْ.. قد هبَّتْ أدخنةُ الموتِ تجتثُ بمقصلِها أرائكَ الورد.. تسرقُ رائحةَ الزعترِ البريّ من بين الصخورِ وتغنّي وتدور.. تعبُّ من نبيذِ الخيالِ مازحةً وتجرفُ معها الصمتَ والبرقَ والرعد.. تأمّلْ.. في المجازِ فلسفةُ التواري تغمدُ سحرَها في نحرِ النهارِ الغائم.. ولسوفَ يضنيكَ هجرُكَ فتشقى.. وتحولُ بين الرمحِ المحتدَّ للريحِ والندمِ المرصودِ بكرةً وأصيلا.. وتُحشرُ مع سربٍ ضالٍّ من تثاؤبِ الضحى الساكن.. كأنّكَ لم تلبثْ في عينِ الشمسِ إلّا وميضا.. وتعدُّ عقاربَ التلويحِ تهادنها مهزوماً مكظوماً، وتبحثُ عنّي في جزعِ المساءِ الشاردِ مثل دبيبٍ من قُبَلٍ.. غرّبها الحنينُ في صقيعِ الأرحامِ حتّى تستحيلَ ليلاً طويلاً.. ولسوفَ يعييكَ وزركَ غفلةً.. فتعاندُ الشرَّ وتسجدُ تكفيراً عن ذنبي في مطارقِ المساربِ الصمّاء.. وتسبٌحُ مثل شفيعِ الروحِ في الخباءِ وترتّلُ صبراً جميلاً.. ولسوفَ يشجيكَ طيرٌ غطَّ على زندِ الغصنِ الملويّ وجداً، فتحجمُ القلبَ عن سحرٍ أخّاذٍ للحسنِ المسفوكِ على مقصلةِ الزمانِ، وتضلُّ تنهيداً وتأويلا.. ولسوفَ ترثيكَ نفسُكَ دمعاً سخيًا.. قتاتُ الطّائر على فتات الشّمس الحانية.. يحملُ عبء الرّحيل بجناحيه.. ويمضي غرباً حيث يتأوّه الأثير متغنيّاً بمحبوبه، فيحتفي بمملكة موته على عتبة السّهو المائد بين دمع السماء ودم الشفق.. ينقّبُ في التراب عن ماءٍ حبيس يتفجّر سيولاً من الطوفان تهزّ لامبالاة الحبيب، فيغرفه السّخامُ بكاحلِ الوجع المسجّى في جُرْفِ الأحزان.. يجفل من بُعدِه ويهصر خطاه بلهفة الرّيح غافلاً عن قسوته مصفحاً عنها.. ويُقبِلُ على حتفه بابتسامة رضا جلجل منها وعدُ البين الأخير.. في الشتاء ينسدلُ جموحُ الدّمعِ لا يتوارى رغم الشحوب الداكن للّيل.. تعبره الرّيحُ ذاهلةً عن صَباها.. وحده الضبابُ يتراقصُ في محجر السماء صحواً.. والرحيلُ أحجيةٌ في ناموس الحبّ الذي لا يلين ولا يُذكر إلّا سرّاً.. ترتّله الوحدةُ صلاةً للضالّينَ في رحاب الجمر الخابي،، فأحمله ذراتٍ من غبار العمر الغافل.. وأرمق ما اضمحلَّ من رفاتي وأمضي.. وأتيهُ في الأرض..

الأكثر قراءة