يرى كثيرون أنّ الزمن بدأ يعاكس المسيحيين في لبنان، منذ أن اغتيل الرئيس بشير الجميل، في 14 أيلول 1982. لكن البعض يقول: على مدى أجيال، قبل إنشاء لبنان الكبير وبعده، بقي الزمن يعاكس المسيحيين... وهم أيضاً يعاكسونه. فهل ما وصلوا إليه اليوم هو نتيجة لما فعله «الآخرون» بهم، أم هو ثمرة لما فعلوه هم بأنفسهم؟
ليس صادقاً من يقول إن المسيحيين يعيشون اليوم بالطمأنينة التي كانت لهم مع بداية عهدهم مع لبنان الكبير، أي عندما بذلَ البطريرك الياس الحويك جهوداً لدى الفرنسيين نجحت في إقناعهم بتوسيع حدود الكيان اللبناني لتشمل السهول الخصبة والموانئ خارج المتصرفية والجبل.
كان في تقدير البطريرك آنذاك أن هذا المدى الحيوي سيمنح أبناء الرعية طمأنينة إلى المصير، بعد كارثة الحصار والجوع التي أبادت ثلث أهل الجبل تقريباً خلال الحرب العالمية الأولى، تحت الاحتلال العثماني.
اليوم، الأمنيات التي يجري التعبير عنها في الأوساط المسيحية، ومن دون مواربة، معاكسة تماماً لتلك التي سادت قبل قرن. فالمزاج المسيحي بات يميل أكثر فأكثر إلى هامش من الاستقلالية داخل نظام الشراكة. هو لا يريد التقسيم، أو ربما لا يريد البوح به لأن الآخرين سيرفضونه وهم قادرون على التصدي له.
ولذلك، يميل المسيحيون عموماً إلى اعتماد أشكال مختلفة من اللامركزية الموسعة في لبنان. وهناك فريق وازن من المسيحيين يفاوض اليوم «حزب الله»، باعتباره صاحب القرار الأقوى على الساحة، لعله يتجاوب مع طرح اللامركزية الموسعة.
وأكثر من ذلك، إن فرنسا التي ما زالت وازنة في الواقع السياسي اللبناني، ما عادت للمسيحيين الأم الحنون، وهي توزّع «حنانها» على فئات لبنانية عدة وفقاً للمصالح وموازين القوى.
فعندما تألقت الحريرية كان السنّة أولوية فرنسا. واليوم بات الشيعة هم الركيزة، لأن القرار الأكبر في يدهم.
ومن سخريات القدر أن «المفوض السامي» الفرنسي الحالي، جان إيف لودريان، يصطدم بمعادلة معاكسة لتلك التي سادت زمن الجنرال غورو، في العام 1920. إذ انّ المسيحيين اليوم باتوا «يحنّون» إلى هامش من الاستقلالية داخل الشراكة، فيما الشيعة يناسبهم لبنان الكبير بصيغته المركزية الصارمة، كما هي اليوم، لأنهم قادرون على الإمساك بالسلطة والمقدرات مركزياً، وبلا منازع.
التفسير بسيط: في الصراع على البقاء، كلٌّ يريد الحصول على أكبر مقدار من المكاسب والقوة. فالمسيحيون، عندما اختاروا توسيع كيانهم ليصبح «كبيراً»، كانوا مطمئنين إلى أنهم سيستمرون فيه الطائفة الأقوى: عقارياً، اقتصادياً ومالياً، وثقافياً وتربوياً، حتى إنهم حافظوا في الكيان الوليد على تفوقهم العددي، ولو بمقدار بسيط. كما أن السلطة التي نشأت بعد استقلال 1943، كان فيها للمسيحيين رجحان واضح، ودام لعقود.
اليوم، عندما تبدلت الصورة تماماً لمصلحة المسلمين، وازداد النفوذ الشيعي خصوصاً بدعم إقليمي، تبدلت الأدوار. فبات الشيعة متمسكين بالصيغة المركزية التي توفر لهم سيطرة قوية على المؤسسات والمرافق. وأما المفاوضات التي يخوضها «حزب الله» مع «التيار الوطني الحر»، بهدف إدخال اللامركزية على النظام، فليس متوقعاً أن تتوصّل إلى نتائج، إذ ليس من مصلحة «الحزب» القبول باللامركزية الموسعة، المالية خصوصاً، إلا إذا طرأت تطورات كبرى في الإقليم أدت إلى فرض أشكال من اللامركزية أو الفدرالية في كل كيانات الشرق الأوسط، من اليمن فالعراق وسوريا ولبنان.
في الخلاصة، يسود الأوساط المسيحية شعور بأن لبنان يفقد طابعه الذي نشأ عليه قبل 100 عام. وما زال المسيحيون، بعد 41 عاماً على اغتيال بشير الجميل، بما مثّله لهم من أحلام، يَتقلبون في التجارب، من خيار فاشل إلى آخر فاشل بلا هوادة، ويتصارعون ويدفعون الأثمان.
وإذا كان بشير الجميل يمثّل فعلاً «حلم» المسيحيين، فمن المناسب تصويب بعض الأخطاء التي تراكمت طوال سنين ولم يُتَح المجال لتصويبها.
فالحلم المسيحي مع بشير لم يكن تقسيمياً بل بُني على شعار الـ10452 كيلومتراً مربعاً. ومع بشير، كان هناك وعد بالشراكة السليمة، وبالشفافية واقتلاع الفساد والفاسدين. ومع بشير، كانت المارونية السياسية التي جرى تحميلها كل خطايا العالم قد استعدت للدخول في تجربة فريدة لبناء الدولة.
وحتى خصوم بشير كانوا يعرفون أن وصوله إلى الحكم سيفتح باباً للتغيير الذي انتظره الكثيرون، كلّ من موقعه.
فقط، مأزق بشير كان: العامل الإسرائيلي الذي به استعان للوصول إلى الرئاسة. لكن ما انكشف لاحقاً من معلومات أكد أن بشير لم يكن في وارد التقدم خطوة واحدة في اتجاه إسرائيل إلا بتوافق لبناني وعربي. وهنا كانت نقطة الضعف الأشد خطراً على بشير.
على الأقل لم يكن بشير متهافتاً للارتماء في أحضان إسرائيل كما فعل كثيرون من العرب والمسلمين ويفعلون وسيفعلون علناً وسراً. واليوم، العرب والمسلمون باتوا يتعاملون مع إسرائيل أو يطبعون معها العلاقات، ولا أحد من الذين «صلبوا» المسيحيين يوجه انتقاداً لهؤلاء المتعاملين والمطبعين، أو يقطع علاقاته بهم حفاظاً على ماء الوجه.
مشكلة المسيحيين، قبل بشير وبعده، تكمن في سوء اختيارهم لزعمائهم عموماً. لكن هذه المشكلة ليست خصوصية مسيحية، بل هي موجودة في طوائف لبنان كلها. ولذلك، يعاني المسيحيون من حال الإرباك التي توصلهم دائماً إلى الفشل، فيدفعون الأثمان.
لكن ذلك لا ينفي أن هؤلاء المسيحيين أنفسهم، دفعوا خصوصاً ثمن مواجهتهم مع دمشق. ولاحقاً، بعد عام 2005، وقف كثيرون واعترفوا بالندم لأنهم لم يشاركوا في المواجهة بداعي الخوف.
إنها تراجيديا المسيحيين، هذه الجماعة الصغيرة التي يقودها الضعف وسوء القيادة إلى الإرباك والضياع، في بلد لم تجد السبيل المناسب إلى المحافظة عليه، وفي شرقٍ تتطاحن فيه الأكثريات والأقليات من أجل السيطرة والتوسع.