التحريك الأساسي للانتخابات الرئاسية هو تحريك داخلي انطلاقاً من ميزان القوى النيابي الذي، بِمُجرّد أن خرجَ من جموده، من خلال التقاطع بين المعارضة و»التيار الوطني الحر» على مرشّح من اللائحة التوافقية، فإنه فتحَ الطريق أمام إنهاء الشغور الرئاسي.
ترتبط مدة الشغور بميزان القوى النيابي، فإذا كان متحركاً فهذا يعني ان الاختراق سيحصل عاجلا أم آجلا، وإذا كان جامدا على غرار الاستحقاق السابق فهذا يعني ان الشغور سيطول. ولو بقيت الأمور مجمّدة بين مرشّح معارضة ومرشّح ممانعة وبين كتل ونواب اللاموقف، لكانَ ستاتيكو الفراغ على حاله، ولكن التقاطع بين المعارضة وحليف الممانعة الذي افترق عنها رئاسياً أدى إلى كسر حلقة الجمود الرئاسي.
والفارق الأساس بين الاستحقاق السابق والراهن انّ الفريق المعطِّل نفسه كان بحوزته ورقة قوية سابقاً وضعيفة حالياً، فضلاً عن انّ تعددية المجلس النيابي لم تسعفه، إذ وجد في المرة السابقة مَن يتقاطع معه لإنهاء الشغور خشيةً على اتفاق الطائف، فيما استفادته من التعددية الراهنة تقتصر على زاويةِ انّ أصحابها يدورون في حلقة مفرغة فلا يؤيدونه ولا يؤيدون أخصامه، ولو لم ينتقل حليفه إلى الضفة الأخرى بعدما يئس من تمسكه بمرشحه لَما دخل الاستحقاق الرئاسي في فصل جديد مفتوح على إنهاء الشغور.
ولا بدّ من تكرار انّ الفريق الممانع أساء تقدير ردة فعل حليفه لمرتين متتاليتين: الأولى برفضه القاطع السير بترشيح النائب السابق سليمان فرنجية، وكان يراهن على عامل الوقت الذي سيجعله يعيد النظر بموقفه خصوصاً انه يفتقد للحلفاء في الضفة الأخرى، ولكن تبيّن سوء تقديره ورهانه أنهما في غير محلهما. والمرة الثانية بِتقاطعه مع المعارضة على مرشّح رئاسي، إذ كان يراهن على عدم إقدامه على تجاوز الخطوط الحمراء في العلاقة معه لجهة انّ عدم تبنّي مرشحه شيء، إنما التقاطع مع المعارضة على مرشح آخر شيء مختلف تماماً، وقد أساءَ هنا أيضاً التقدير السياسي في العلاقة مع فريق لا أولوية تعلو عنده على أولوية السلطة.
ولم يقتصر سوء تقديره، واستطراداً سوء إدارته للمواجهة الرئاسية، على عدم تَوقُّع ردّة فعل حليفه، إنما لم يتوقّف أمام ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة من تعددية داخل البرلمان لا تسمح لأي فريق بِحسم الاتجاه لمصلحته، ولم يأخذ على محمل الجدّ موقف المعارضة الرافض إبرام تسوية معه على مرشحه لاعتبارات مبدئية أولاً وتتصل بالخلاف الاستراتيجي، وموضوعية ثانياً تتعلّق بدفتر شروط الخروج من الانهيار، ومجرّبة ثالثاً مراراً وتكراراً وكانت نتائجها كارثية. ولم يستدرك ويتراجع عن موقفه المتمسّك بمرشحه بعد الاتفاق السعودي-الإيراني الذي أدخلَ المنطقة في مرحلة إرساء التوازنات بعيداً عن مشاريع الغلبة والهَيمنة، وكان يفترض به أن يلتقِط معنى هذا الاتفاق وإشاراته، ولكنه بدلاً من أن يُعيد تموضعه الوطني انسجاماً مع التطور الإقليمي ذهبَ إلى مزيدٍ من التشدُّد، وكأنّ المنطقة دخلت في فصل جديد من الحَماوة لا التبريد السياسي. كما انه لم يَتنبّه إلى انّ إصراره على مرشحه أدى إلى توحيده المسيحيين ضد سلوكه وممارسته، وهذا ما كان مستحيلاً لولا طريقة إدارته للانتخابات الرئاسية. وبالتالي، يعود إليه الفضل بتقاطعات مسيحية كانت مستحيلة وتحقّقت عن طريقه، وعلى سيِّد بكركي أن يشكره على دوره وتحقيقه هدفاً من أهداف سعى إليها ولم ينجح في تحقيقها مباشرة، إنما حقّقها مُداورة عن طريق الممانعة.
وعلى رغم تعددية المعارضة الوطنية، إلا انّ الطابع الأساس للانتخابات الرئاسية مسيحي، ولا يصحّ انتخاب رئيس للجمهورية خلافاً لإرادة الشريحة المسيحية الأكبر التي تقاطعت على مرشّح وحَظيت بتأييد بكركي التي خرجت عن حيادها وتحميلها جميع الكتل والنواب مسؤولية الشغور، إلى تأييدها وحدة الموقف بين المسيحيين الذي سَعت إليه كورقة قوة في الانتخابات الرئاسية، وأبلغت الرئاسة الفرنسية برسالة منها ومن الفاتيكان بعدم جَواز تجاوز الإرادة المسيحية التي تقاطعت ضدّ أن يُفرَض عليها رئيس الجمهورية.
ومعروف انّ قوة موقف بكركي معنوية، وعندما تصطف إلى جانب المعارضة بتقاطعها مع «التيار الوطني الحر»، فهذا يعني ترجيحها كفّة هذا الفريق نظراً لتأثُّر عواصم القرار بموقفها وأخذه في الاعتبار، وأكدت في أكثر من موقف ومناسبة رغبتها في الوصول إلى انتخابات رئاسية لا غالب فيها ولا مغلوب، ما يعني رفضها بوضوح شديد إصرار الممانعة على مرشحها.
ولم تلتقط الممانعة الموقف السعودي، ليس فقط الرافض مباركة المبادرة الفرنسية وتأكيده انّ الاستحقاق الرئاسي شأن سيادي لبناني، إنما بِكلام المملكة عن رئاسةٍ خارج الاصطفافات السياسية، ما يعني رفضها المعلن لترشيح يُزَكّي الممانعة وتأييدها المُضمَر لترشيح يجسِّد التوازن بين اللبنانيين، ويتكامل مع جوهر اتفاق بكين إنْ بإرساء التوازنات او بإرساء الاستقرار الذي مَدخله التوافق لا الغلبة.
ولم تنته الأمور عند هذا الحدّ، حيث عَمدت باريس، بعد التقاطع الرئاسي وموقف بكركي والفاتيكان، إلى نقل الملف اللبناني الذي يتولى إدارة الانتخابات الرئاسية من فريق إلى آخر، وهذا بحدّ ذاته رسالة تَنمّ عن تراجعها عن مبادرتها الرئاسية تِبعاً للمعطيات المُستجِدة النيابية والمسيحية، خصوصاً بعد ان اصطدمت هذه المبادرة بجدار سميك لم تنجح بالقفز فوقه.
وقبل ذلك كله لم تَتنبّه الممانعة إلى ان الرأي العام اللبناني كان قد انتفضَ في 17 تشرين 2019 بهدف التغيير السياسي لا تأبيد الوضع القائم، وانها اضطرت إلى التسليم بحكومات غير سياسية خلافاً لإرادتها ورغبتها، فإذا بها تدعم خياراً رئاسياً ينتمي إلى ما قبل هذه الثورة وحتى ما قبل العام 2005، أي طَي صفحة الانتفاضة ومفاعيلها. وما شَجّعها على هذا التوجه انّ الكتلة النيابية التي ادّعَت تمثيلها لثورة الناس تَكفّلت بِطَي هذه الصفحة من خلال افتقادها لأهم عنصر تريده الناس، وهو الوضوح في المواقف السياسية وتسمية الأشياء بأسمائها وتشخيص السبب الأساس للأزمة اللبنانية والتقاطع مع القوى التي لها نفس التشخيص والتعبير السياسي باعتبار انّ التغيير يَتطلّب أوسع وحدة صَف مُمكنة، وهذا ما دفعَ بعض النواب، على غرار وضّاح الصادق ومارك ضو وميشال الدويهي، إلى التمايز والابتعاد لأنهم وحدهم من بين سائر أعضاء هذه الكتلة يتحدثون بلغة انتفاضة 17 تشرين، كَون الناس انتفضَت سعياً للتغيير الذي لا يتحقق سوى من خلال الوضوح وليس الكلام غير المفهوم لتغطية تَمَوضعات مكشوفة او خوفاً من ارتدادات هذا الوضوح.
وعلاوة على كل ذلك، لم تتيّقن الممانعة إلى انّ إخراج لبنان من الانهيار المالي الرهيب ومن عزلته يتطلّب تسوية سياسية، ولو جزئية، تجمع أوسع شريحة من القوى السياسية بما يؤمِّن الاستقرار السياسي الذي يشكل مدخلاً إلزامياً للاستقرار المالي ويُفسِح في المجال أمام الشروع في خطة إصلاحية تعبِّد الطريق نحو الحلول المنشودة، وذلك على غرار تسويتَي الدوحة والعام 2016، فيما المعالجة مستحيلة من مربّع انقسامي عمودياً.
وتبعاً لكل ما تقدّم، فلقد اصطدمت الممانعة بميزان قوى نيابي لغير مصلحتها، وميزان قوى مسيحي «طابِش» لأخصامها، وميزان شعبي تَوّاق إلى التغيير، وميزان خارجي تبدّلَ مع تبدُّل المعطيات الداخلية. وحيال ذلك كله، وبعد ان خرج الاستحقاق الرئاسي من جموده بفِعل التقاطع بين المعارضة والتيار، فإنّ العدّ العكسي لانتهاء الشغور الرئاسي قد بدأ وانطلق بمعزلٍ عن موقف الممانعة او إعلان مرشحها تمسّكه بترشيحه من عدمه، إذ لا بد من ان تقود المعطيات الخارجية والداخلية إلى دينامية تُفضي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وبمعزل عن السيناريوهات المحتملة لجلسة ما بعد غد في 14 الجاري، فإنّ الطريق إلى التسوية الرئاسية فتحت، خصوصاً انه بالتأسيس على التجارب السابقة فإنّ التقاطع الداخلي مع الخارجي كان يقود إلى إحداث تغييرات في المشهد اللبناني، باعتبار انّ الضغط الخارجي لوحده غير قادر على إحداث التغيير المطلوب في حال غياب المعطيات الداخلية، ومعلوم انّ هذا الضغط ارتفعَ منسوبه في الأسابيع الأخيرة وصولاً إلى التلويح الجاد بالعقوبات، ومع تقاطعه مع ميزان قوى داخلي متحرِّك ومصمِّم وهادف وتصاعدي، فإنّ الانتخابات الرئاسية قد دخلت في فصلها الأخير.