التقرير الذي ستُصدره مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) في خلال حزيران الجاري، سيشكّل فرصة أخيرة للبنان لتحاشي الانتقال الى القائمة الرمادية. ومن المتوقّع أن يسلّط الضوء على نقاط الضعف التي تؤثر في النظام المالي، والتي تحتاج الى إجراءات سريعة لمعالجتها، وطبعاً أسرع من الوقت الذي احتاجه الكابيتال كونترول، والذي لم يُقَر حتى اللحظة!
لا شك في أنّ «قطوع» القائمة الرمادية قد مرّ بأقل خسائر ممكنة. لكن من الضروري انتظار صدور التقرير النهائي هذا الشهر، والذي سيتضمّن حتماً التفاصيل المتعلقة بالاجراءات التي ينبغي اتخاذها في فترة السماح التي أُعطيت للبنان بُغية معالجتها.
وبالانتظار، لا بد من اعادة قراءة ما جرى في اجتماعات البحرين، من زاوية إدراك بعض الحقائق التي ينبغي التعاطي معها، ومنها:
أولاً - انّ الاقتصاد النقدي (cash economy)، والذي يشكل تحدياً كبيراً في القدرة على مكافحة تبييض الاموال، ينبغي التخفيف من حجمه في المرحلة الاولى، ما دام الخروج منه سيكون متعذّراً قبل الحل النهائي للأزمة، وعودة القطاع المصرفي الى ممارسة دوره الطبيعي. والسؤال هنا، هل انّ التعميم 165 يمكن ان يُساعد في هذا الاتجاه؟ يحتاج الحكم على نتائج التعميم الى مزيد من الوقت، على اعتبار انه سيخلق نظاماً مالياً شرعياً يمر في القطاع المصرفي، الى جانب نظام نقدي مُجمّد سيبقى قائماً.
ثانياً - انّ القطاع المصرفي اللبناني، ومن خلال بنيته الاحترافية، لا يزال قادراً على تقديم اداء جيد في بعض المجالات، ومنها في موضوع الامتثال (compliance)، إذ تبيّن للجنة المنبثقة عن FATF، والتي عايَنت الوضع المصرفي لمدة طويلة قبل ان ترفع تقريرها، انّ القطاع يمارس سياسة الامتثال بشكل احترافي وفق المعايير العالمية، رغم الظروف الصعبة التي يعمل فيها، وفي مقدمها اقتصاد الكاش. وأكدت اللجنة، التي زارت بيروت مرات عدة وراقبت العمل المصرفي، انّ المصارف في لبنان، ورغم ازمة الانهيار المالي، لا تزال تمارس عملها في الامتثال بشكلٍ افضل من كثير من الدول العربية، والتي ليس لديها أزمات انهيار.
ثالثاً - برزت السياسة كعامل مُعطّل لمكافحة تبييض الاموال، من خلال الضغط على القضاء لمنعه من ممارسة دوره في متابعة قضايا تبييض الاموال التي ترفعها إليه هيئة مكافحة التبييض في مصرف لبنان. وهكذا لا تصل الملفات الى خواتيمها، ولا تصدر أحكام في حق المتهمين بالتبييض.
رابعاً - تبيّن ايضاً انّ هيئة مكافحة تبييض الاموال في مصرف لبنان تعمل بشكل احترافي، وترفع ملفاتها الى القضاء. طبعاً، نقطة الضعف في هذا الملف، من وجهة نظر اللجنة في FATF والتي كانت تقيّم الأداء، انّ رئيس هذه اللجنة هو حاكم مصرف لبنان، وهو نفسه متّهم من قبل القضاء، بتبييض الاموال. لكن ما قد يكون خَفّف من وطأة هذا الوضع الغريب، انه تبيّن ان عمل الهيئة لم يتأثر بهذا الواقع، بدليل انّ الهيئة كشفت للقضاء عن حسابات سلامة، عندما طُلب منها ذلك.
خامساً - تبيّن وجود لوبي أجنبي حاولَ في اجتماعات البحرين ان يدفع في اتجاه وضع لبنان على القائمة الرمادية، رغم ان اللجنة التي تابعت الوضع اللبناني كانت مُقتنعة بأن لبنان لا يستحق الإدراج على هذه القائمة، وانه من الضروري مَنحه فرصة اضافية لمعالجة الثغرات.
وفي هذا السياق، لوحِظ وجود أصابع تريد دَفع البلد الى الهاوية، من خلال تسريب خبر وضع لبنان على القائمة الرمادية قبل ايام من صدور القرار عبر وكالة «رويترز» العالمية. ومن المعروف انّ وكالة تتمتّع بسُمعة «رويترز» لا تتورّط في نشر معلومات غير مؤكدة، خصوصاً انه تبين لاحقاً انّ لبنان لم يوضع على القائمة الرمادية كما تَكهّنت الوكالة في الخبر الذي نشرته. وتفسير ما جرى، انّ اللوبي المُنَوَّه عنه، يقف وراء تسريب هذا الخبر، والذي جرى استخدامه من قبل بعض الاعلام المحلي، وعن جهل، وكأنه أصبح حقيقة. هذا الوضع شكّل ضغطاً معنوياً على مناقشات البحرين، وكاد التسريب المُتعمَّد أن ينجح في إسقاط لبنان الى القائمة الرمادية.
تبقى الاشارة الى انّ النظام المالي الخاص الذي أقامه «حزب الله» من خلال مؤسسة القرض الحسن، ومن خلال اصدار بطاقات دفع خاصة به (سجاد)، وخَلق شبكة بَيع للتعاطي مع مؤسساته المالية حصراً، لم تؤثر كثيراً في عملية التقويم التي أجرتها FATF، بل ربما ان هذا النظام المالي غير الشرعي، أراحَ النظام المالي اللبناني الشرعي، إذ إنّ حاجة الحزب الى التبييض تراجعت قليلاً، لأنه باتَ في مقدوره استخدام جزء من امواله النقدية في نظامه الخاص، من دون ان يعني ذلك انتفاء حاجة الحزب الى تبييض كميات من الاموال، لاستخدامها عند الضرورة، من خارج سياق نظامه المالي غير الشرعي.