يلاحظ المراقبون انّ الحركة الاقتصادية في البلد شهدت تغييرات في خلال العام 2022، بحيث انّ الوضع بات يختلف عمّا كان عليه في العام 2021. فهل هناك فعلاً حركة نمو، أم انّه وهم مرتبط بعوامل نفسية، وعوامل ظرفية، توحي بذلك، في حين انّ الأزمة تتجّه نحو مزيد من التعقيدات والبؤس والمخاطر في المرحلة المقبلة؟
يستند الناس في حكمهم على الحركة الاقتصادية على ما يشهدونه من ملاحظات في حياتهم اليومية. هذه الملاحظات توحي للبعض بأنّ «البلد ماشي»، رغم الأزمة: حركة المبيعات في بعض الاسواق ناشطة، المطاعم مفوّلة، حركة السير كثيفة رغم الارتفاع الجنوني في اسعار المحروقات، الكثير من الاعمال الحرفية والمهنية باتت مُسعّرة بالدولار، ومع ذلك جدول العمل لدى هؤلاء مليء بالمواعيد...
في المقابل، تستند الدوائر الاقتصادية والمالية المتخصصة إلى الارقام والمعايير الثابتة في تقييم نسب النمو، وترصد المؤشرات في قراءة الاتجاهات التي قد يسلكها الاقتصاد في المستقبل. لكن المفارقة، انّ لغة الارقام لم تكن موحّدة بالنسبة إلى هذه المؤسسات. ولعلّ التناقض النافر ظهر بين تقديرات البنك الدولي الذي تحدث عن نمو سلبي (انكماش) في العام 2022 سيصل إلى ناقص 5,4%، وبين إحصاءات وتقديرات مصرف لبنان التي تتحدث عن نمو نسبته 2%. وهذا ما أكّده حاكم المركزي في إطلالته التلفزيونية الأخيرة مع قناة «الحرة».
هل بدأ الاقتصاد فعلاً يتأقلم مع الوضع القائم، إلى حدّ الانتقال من الانكماش إلى النمو قبل البدء في خطة للتعافي، وقبل معالجة أزمة التوقف عن الدفع (الافلاس)، ومعالجة الوضع المصرفي ليعود إلى دوره الطبيعي؟
لا شك في انّ الاختلاف في التقديرات بين مصرف لبنان والبنك الدولي نافر، لأنّ الاختلاف في الرأي بالنسبة إلى النمو تحديداً كان يحصل في الماضي، قبل أزمة الانهيار، لكن الفارق لم يكن يتجاوز الـ1 أو2 في المئة في الحالات الاستثنائية. في حين انّ فارق التقديرات اليوم وصل إلى 7,4%.
من الواضح انّ مصرف لبنان يستند في إحصاءاته على وقائع قائمة، لكنها لا تعكس المسار الذي سيسلكه الاقتصاد لاحقاً، ولا تعكس في بعض الجوانب النمو الحقيقي الذي غالباً ما ينعكس على الحركة الاقتصادية، ويلمسه المواطن، ولو بنسبة ضئيلة. ومن هذه الظواهر والحقائق ما يلي:
اولاً- انّ حجم تدفق الدولارات إلى لبنان لم يحافظ على وتيرته المرتفعة قياساً بحجم الاقتصاد فحسب، بل انّه ارتفع.
ثانياً- انّ حجم الاستيراد زاد بما لا يقل عن نسبة 20% عمّا كان عليه في العام 2021.
ثالثاً- نشطت الحركة السياحية في الصيف، وسجّلت المطاعم والمقاهي حركة عمل ناشطة، وحتى بعد انتهاء موسم السياحة، استمرت الحركة وفق وتيرة جيدة.
رابعاً- رغم الارتفاع الهائل في اسعار المحروقات الناتج من تراجع قيمة الليرة، ووقف كل انواع الدعم على المادة، وارتفاع الاسعار عالمياً، وارتفاع اسعار الشحن والنقل، إلّا انّ الكميات المستوردة لم تنخفض سوى بنسبة تُعتبر ضئيلة قياساً بالأسباب الآنفة الذكر، بما يوحي بأنّ اللبناني لا يزال يتمتّع بقدرة شرائية مقبولة.
خامساً- ارتفعت الرواتب في القطاع الخاص بنسب متفاوتة. وهناك عدد كبير من المؤسسات باتت تدفع الرواتب بالدولار او تقسّم الراتب إلى دولار وليرة. وهذا الامر اتضح بسبب الضجة التي أُثيرت في شأن مشروع ضرائب الدخل الجديدة، بما يوحي بوجود نسبة لا بأس بها من اللبنانيين العاملين في القطاع الخاص باتوا يتقاضون رواتبهم بالدولار.
هل كل هذه المؤشرات كافية للقول انّ إحصاءات المركزي أكثر دقة من البنك الدولي، وانّ النمو موجود فعلاً، بصرف النظر عن نسبته؟
اللافت في هذا الموضوع، انّ تقديرات صندوق النقد الدولي للنمو في اقتصادات العالم جرى خفضها أخيراً بعد آخر تحديث للإحصاءات، بحيث تبين انّ معدل النمو في العالم قد ينخفض إلى ما دون الـ2%. وهذا يعني انّ الاقتصاد اللبناني المفلس حقق نمواً يعادل معدل النمو العالمي!
لا شك في انّ مظاهر التأقلم مع الأزمة في لبنان قائمة وحقيقية. لكن التأقلم لا يعني انّ الاقتصاد خرج من الأزمة وبدأ مسيرة الانتعاش. وكل الوقائع التي يستند اليها إحصاء النمو الحالي، إن وجد، مموهة او مؤقتة. الاستيراد ارتفع استباقاً للدولار الجمركي، انخفاض استيراد المحروقات بنسبة ضئيلة واستمرار حركة السير ناشطة سببهما انعدام وسائل النقل البديلة للمواطن للذهاب إلى مقر عمله. ارتفاع تدفق الدولارات قد يعكس زيادة حالات البؤس بما يضطر اللبنانيين العاملين في الخارج إلى إرسال المساعدات.
إلى ذلك، ينبغي الأخذ في الاعتبار الدولارات التي سُحبت من المصارف بناءً على التعميم 158، والتي بلغت حتى الآن حوالى 600 مليون دولار. جزء من هذه الدولارات جرى ضخه مجدّداً في السوق، لكن ذلك يعني ايضاً انّ المواطن يستنفد مدخراته ليؤمّن معيشته اليومية في هذه الأزمة.
خلاصة الامر، وبصرف النظر عن وجود نمو ايجابي كما يقول مصرف لبنان، ام انكماش كما يؤكّد البنك الدولي، ما هو اكيد انّ الاقتصاد مكربج، والاستثمارات الخارجية غير موجودة، والاستثمارات الداخلية الضئيلة، لا تبقي على أرباحها في الداخل، بل تعمل على إخراجها، والتفاوت الطبقي ينمو بشكل خطير يهدّد بالانفجار الاجتماعي. كل ذلك يعني انّ استمرار التأخير في البدء بالحل يزيد الأزمة صعوبة، ويزيد الكلفة على الجميع. ولا خلاص سوى بالاعتراف بالحقائق واستعجال المعالجة، قبل الوصول إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الحالي.