وعلى العكس من ذلك، استمر الاسلوب الانتحاري نفسه للطبقة السياسية الحاكمة، ليصل البلد الآن الى الخط الاحمر الاخير، والانزلاق سريعاً باتجاه الارتطام. وكي لا نخدع انفسنا مرة جديدة، فإنّ هذه القوى السياسية، التي تضع دائماً الاولوية لمصلحتها الذاتية والانتخابية، لا تفكر في المرحلة الحالية سوى بالاستحقاقين النيابي والرئاسي، وبالتالي فهي لن تذهب الى حكومة يتضمن برنامجها القيام بإصلاحات موجعة وغير شعبية. لذلك شجعت باريس على الذهاب الى حكومة مهمّتها الإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة، وربما للإشراف على الاستحقاق الرئاسي، ولو كحكومة تصريف اعمال، نظراً للصعوبة التي قد تواكب ولادة حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية، أضف الى ذلك إيكال هذه الحكومة مهمّة وضع سكة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتأمين الاساس المطلوب، ولو من دون الذهاب الى ابعد من ذلك.
لذلك، عادت ونشطت الحركة حول ولادة الحكومة، ولو انّ الانطباع الغالب بأنّها ستكون من دون بركة. فالإشراف على العملية الانتخابية يعني الامساك بوزارة الداخلية، وايضاً التحصن بوزارة العدل، وبقية القصة باتت معروفة. ونظراً للخطورة الفائقة للوضع، سيصل يوم الخميس المقبل الى بيروت وفد رفيع للبنك الدولي، وهي المؤسسة الدولية الأرفع والأهم من صندوق النقد الدولي. وهذا الوفد الذي سيلتقي المسؤولين اللبنانيين، سيترأسه هذه المرة مسؤول مجلس المديرين حسن ميرزاز، عوضاً عن فريد بلحاج نائب الرئيس لشؤون منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، والذي سيكون احد اعضاء الوفد. ما يعني انّ المؤسسة المالية العالمية الأهم أوفدت هذه المرة وفداً رفيعاً في مهمة «صارمة»، وكذلك فإنّ الاستنتاج بديهي بأنّ البنك الدولي يتحرك بموافقة وبالتنسيق مع واشنطن، وأنّه يحمل افكاراً جديدة لأنّ الوضع اللبناني بات خطيراً جداً.
وفي خط موازٍ، بدأ التحضير في الكابيتول هيل في واشنطن لجلسة مخصصة لعرض الوضع في لبنان. وكان من المفترض ان تبدأ هذه الحركة بعد الانتهاء من المفاوضات الاميركية - الايرانية حول الملف النووي، والمتوقع خلال الشهرين المقبلين، لكن الخطر الذي بات يطال مصير لبنان قد يكون الدافع وراء اختصار الوقت.
ويُحكى عن التحضير لجلسة استماع تضمّ لجنتي العلاقات الخارجية في كل من مجلسي الشيوخ والنواب، مخصّصة للأوضاع اللبنانية فقط. ومن المفترض ان يحضر جلسة الاستماع منتدبون عن عدد من الوزارات الاميركية المختصة، اضافة الى وزارة الدفاع والامن القومي والمخابرات، وكذلك السفير ديفيد هيل، رغم انتقاله الى القطاع الخاص، كونه خبيراً في الشأن اللبناني.
السيناتور الديموقراطي تيم كاين، وهو احد الناشطين على هذا الخط، قال في ندوة خاصة، بأنّ الادارة الاميركية مهتمة في هذه المرحلة في مفاوضاتها النووية مع ايران، لكنه اضاف، بأنّه حتى الآن لم تحصل بعد مفاوضات مع ايران حول المسائل الاقليمية. الّا أنّه اعتبر انّه لا مفرّ من الحديث بهذا الشق، كون ذلك يؤدي الى تحصين الاتفاق ومنع التخريب عليه لاحقاً.
وتابع السيناتور الكاثوليكي، بأنّ الادارة الاميركية تعتقد بأنّ المفاوضات حول النووي تسير بطريقة صحيحة، وأنّ التروّي والتمهّل الحاصلين هما من اجل حماية الاتفاق وتأمين جوانبه، وأنّ احد الاهداف المرجوة منه تأمين الاستقرار للمنطقة، وهو ما يصبّ في نهاية المطاف في مصلحة حلفاء الولايات المتحدة الاميركية في الشرق الاوسط، ومشيراً في الوقت نفسه الى دور جديد لمصر في الشرق الاوسط.
وحول الوضع اللبناني يقول السيناتور كاين، انّ الملف اللبناني لن يبقى طويلاً على الرف. واعتبر انّ مسائل كثيرة كان من المفترض ان تحصل قبل الآن، لكن الأمور وصلت الى حدٍ لم يعد يحتمل. وبخلاف كل ما تردّد سابقاً، فإنّ السيناتور الديموقراطي والذي كان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس خلال حملة هيلاري كلينتون الرئاسية، أكّد تأييد بلاده الكامل للمبادرة الفرنسية، وأنّ تواصلاً دائماً يحصل مع المسؤولين الفرنسيين لهذه الغاية والتي يشارك في جزء منها بيار دوكان.
وفيما بدا واثقاً انّ «حزب الله» سينضوي في الجهود حيال انقاذ لبنان، وأنّه يتمتع بالذكاء الذي سيدفعه الى إعادة تحصين مستقبل البلد، أكّد على انّ الامل الوحيد الذي يمكن التعويل عليه لحماية البلد من الانفجار وتناثر اجزائه هو الجيش اللبناني. ذلك أنّه في حال انهيار المؤسسة العسكرية فهذا سيعني فقدان الامل الاخير ببقاء لبنان على قيد الحياة.
وأنّه لذلك تهتم واشنطن بالجيش اللبناني، وتعمل دائماً بشتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة على تأمين الحماية له.
كلام السيناتور الاميركي، والذي يوحي بقرب فتح ورشة لبنان، يتقاطع مع الحركة القائمة في باريس، والتي تُوّجت بزيارة قائد الجيش العماد جوزف عون والوفد المرافق له.
صحيح أنّ الزيارة تأتي في جدول برامج الدعوات العسكرية لقائد الجيش والتي ستليها زيارتان متتاليتان الى واشنطن ولندن في الاطار نفسه، لكن الاجتماع الذي حصل في الاليزيه بين الرئيس الفرنسي وقائد الجيش بدعوة من الاول، هو ما فتح شهية الاستنتاجات. فكما واشنطن فإنّ باريس ايضاً ترى اقتراب لحظة الارتطام او الانفجار الكبير. فالعاصمتان تعتقدان انّ لبنان يهوي بسرعة فائقة، وأنّ مؤسسة الجيش الوحيدة القادرة على منع تفتت لبنان لحظة الارتطام.
لذلك، تمحورت زيارة العماد جوزف عون الى باريس حول المخاطر الامنية والعسكرية والصعوبات التي يعاني منها الجيش اللبناني، اضافة الى ملف النازحين السوريين الذي بات فوق قدرة لبنان على تحمّله.
منذ اكثر من شهرين اطلق قائد الجيش صرخته الشهيرة حول الوضع الذي تمرّ فيه المؤسسة العسكرية، وسط المهمات الشاقة المطلوبة منها. يومها ردّت الطبقة السياسية بوابل من التفسيرات السياسية، ومن دون الذهاب الى تقديم اجوبة مسؤولة حول ما جرى طرحه. واستمر الوضع بالتدهور، ما اضطر قيادة الجيش الى طلب المساعدة من عواصم اوروبية وعربية وشرق أوسطية، على الاقل لتأمين عائلات الجنود معيشياً وصحياً.
وفي المقابل، فإنّ فرنسا التي تقف كما بقية البلدان الاوروبية عند الحدود البحرية مع لبنان، رصدت خلال الأشهر الماضية ارتفاع مستوى الهجرة غير الشرعية، والأخطر سعي عناصر ارهابية تسلّلت الى الاراضي اللبنانية، وهي من اصول عربية وتحمل الجنسية الفرنسية، للسفر بطريقة غير شرعية الى اوروبا.
في باريس، تسود القناعة بأنّ الوضع اللبناني هش وخطير، خصوصاً وانّ القوى السياسية لا يعوّل عليها في مشروع اعادة الاصلاح.
صحيح انّ مضمون اجتماعات قائد الجيش تمحورت حول المخاطر الامنية المرتفعة المطروحة والمستلزمات التي يحتاجها الجيش بإلحاح، بدءاً من الحياتية والمعيشية ومروراً بالمسائل اللوجستية والصيانة ووصولاً الى تأمين المحروقات، الّا انّه كان معبّراً جداً ان يعمد ماكرون الى دعوة قائد الجيش الى لقاء من خارج جدول الاعمال المحدّد اصلاً.
فالبرنامج الرسمي للقاءات ماكرون كان مزدحماً بسبب وجوده خارج البلاد أخيراً، من بروكسل، حيث حضر القمة الاوروبية، الى افريقيا التي تشغل قصر الايليزيه كثيراً وتأخذ معظم وقته. رغم ذلك وجد الرئيس الفرنسي 45 دقيقة ليلتقي فيها قائد الجيش، في سابقة بروتوكولية. والواضح انّ ماكرون الذي كان أعطى لتوه موافقته على البدء بإبلاغ الشخصيات اللبنانية بالعقوبات الفرنسية، اراد ان يتعرف مباشرة الى قائد الجيش اللبناني ويقرأ في خطوط شخصيته.
ورغم انّ لقاء الـ 45 دقيقة بقي في اطار الوضع الامني اللبناني والمخاطر المفتوحة ودور الجيش والمساعدات الملحّة التي يطلبها، الّا أنّ مصدراً ديبلوماسياً فرنسياً في باريس نقل اعجاب الرئيس الفرنسي بالعماد عون، واصفاً ايّاه بالشخص المسؤول، خصوصاً من خلال طريقة عرضه للامور وعدم خروجه عن الملف العسكري الذي يحمله.
ويضيف المصدر الديبلوماسي، بأنّ الرئيس الفرنسي اراد اعطاء اشارة تؤكّد بأنّ الجيش بقيادته الحالية هو صمام امان وسدّ لمنع تفتت البلد وسط الانهيار الحاصل. وأنّ باريس ليست ملزمة باستمرار تواصلها مع القوى السياسية المتهمة بعرقلة الحكومة واجراء اصلاحات عاجلة لوقف الانهيار المتسارع.
واضاف المصدر، انّ ماكرون ابدى استعداده للدفع في سبيل التعبئة الدولية لعقد المؤتمر الدولي من أجل تأمين المساعدات الملحّة لتجاوز الوضع الدقيق.
كما انّ ملف دعم الجيش سيحضر خلال جولة ماكرون الخليجية الجاري التحضير لها، والتي ستشمل السعودية وقطر والامارات.