بين رفع الدعم والابقاء عليه، يلهث أصحاب القرار وراء نتائج الأزمة الاقتصادية - المالية، بينما تبقى أسبابها التي تفرز المأزق تلو الآخر من دون معالجة.
يُماطِل المسؤولون حتى الآن في علاج أصل المرض وينشغلون بعوارضه الجانبية التي تتخذ أشكالاً عدة. هكذا، وبدلاً من التعجيل في تشكيل الحكومة المنتظرة وبدء الإصلاحات المتأخرة، وبناء الثقة المهدمة، وتنشيط القطاعات الانتاجية المنهكة، واستقطاب المساعدات المجمدة والاستثمارات الهاربة، صار النقاش يتمحور حول جواز رفع الدعم أو عدمه، وعمّا اذا كان يتوجّب إعطاء الاولوية لحماية الفقراء وذوي الدخل المحدود من خطر انفلات أسعار السلع الحيوية، أم للمحافظة على بقايا الاحتياطي من الدولار في مصرف لبنان.
والحقيقة، انّ الدولة لو تعاطَت مع الازمة بمسؤولية وبادرَت الى اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب عوضاً عن هَدر سنة منذ الانهيار في التجاذبات والمناكفات، لكانت موجات الانهيار المتدحرج قد لُجمت نسبياً، وطلائع «المَصل المالي» قد بدأت تسري في العروق الجافة، بحيث لا يصبح احتمال رفع الدعم داهماً، كما هو الآن.
والمفارقة هي انّ دعم السلع يتم أصلاً من جيوب المواطنين عبر ودائعهم المصرفية التي جرى استهلاك معظمها خلال السنوات الماضية في تمويل هدر الدولة وفسادها، وما نَجا منها يُستخدم حالياً في تغطية السلع المدعومة، وحتى الجزء المُندرج في إطار احتياطي البنك المركزي بات مهدداً بأن يفقد «حَصانته» ويتم الاقتطاع منه، اذا تقرر الاستمرار في الدعم الذي لا يصل منه أصلاً سوى جزء قليل الى من يحتاجه حقاً، بينما يُهدر أغلبه في التهريب او على مساعدة الفئات الاجتماعية المقتدرة!
والوقاحة هنا، وفق مرجع اقتصادي، انّ الدولة، بمؤسساتها الدستورية وبمصرفها المركزي، استَسهَلَت، ولا تزال، أن تمد يدها الطويلة الى بقايا ودائع الناس لتستخدمها في تمويل الدعم، بدل ان تفتّش، انطلاقاً من واجباتها وعِلة وجودها، عن طريقة لتأمين الأموال وايجاد الحلول، من دون الاستمرار في استنزاف مدّخرات الناس.
والغريب، انّ بعض السياسيين والمسؤولين مِمّن يتهمون عن حق مصرف لبنان بالمشاركة في ارتكاب جرم الانهيار لأنه كان يَنصاع لطلبات الطبقة الحاكمة ويقبل بأن يغطّي من أموال المودعين إنفاقها العشوائي، هؤلاء أنفسهم يطلبون منه اليوم أن يواصل اعتماد خيار الدعم عبر قَضم آخر الودائع العائدة للمواطنين، خوفاً من التداعيات الشعبية التي ستترتّب على وَقفه.
بهذا المعنى، فإنّ الطبقة السياسية تريد ان تحمي نفسها من غضب الناس بأموالهم، وتريد ان تدعم احتياجاتهم من فُتات مدّخراتهم المحتجزة في مصرف لبنان، بينما المطلوب منها ان تتحمّل، هي، هذا العبء وتتدبّر أمر حماية الفئات الفقيرة، عبر مصادر تمويل أخرى، وليس على قاعدة «مِن دِهنو سَقّيلو».
والواضح انّ أحداً في هذه الدولة الهجينة لا يتجرّأ على أن يتصدى للمسؤولية، بل إنّ كلّاً منهم يتهرب منها ويلقيها على الآخر. بين الدولة وحاكم البنك المركزي والمصارف ضاعت الطاسة، لكنّ الاكيد انّ المودِع لوحده هو الذي دفع الثمن الأكبر للخيارات المالية والاقتصادية التي تَشارَك الجميع في إقرارها وتنفيذها، وحتى عندما يمنونه اليوم بإصرارهم على مواصلة الدعم إنما يفعلون ذلك من كيسه، وعلى حسابه.
انها سياسة الهروب الى الامام التي تحترفها السلطات المتعاقبة، والنتيجة الوحيدة تأجيل المشكلة وتكبيرها في الوقت نفسه، إلى أن يحصل الانفجار الكبير في نهاية المطاف، وتصبح كلفة الحل أكبر وأقسى.
ولعله يمكن اختصار المُعادلة المريرة التي تحكم الوضع الحالي بالآتي: عوضاً عن البحث في الوسائل الكفيلة باستعادة الودائع المتبخّرة، صار الهم الأساسي الآن أن نحمي القليل الناجي منها!