«زورق على شاطئ الانتحار»... يُجذّف في «بحور» المراهقة
ميريام سلامة
Wednesday, 05-Aug-2015 00:27
الكتابة ليست قراراً يتّخذه القلم ويبدأ بعده برَشْحِ حِبره على ورقٍ أبيض مهيّأ لاحتضان الكلمات. الكتابة مشاعر تذرف نفسها على تلك الأوراق البيضاء، والقلم أداتها. من دون تفكير ولا تصوّر، ينساب الحبر متّخذاً شكل عبارات، أفكارها مشاعر فقط، تنسكب من الباطن والوجدان. جورج شامي شاعرٌ سكب مشاعره القاتمة يوماً على الورق، وهو في سنّ المراهقة، أبقاها في درج الحياة لينشرها بعد أكثر من نصف قرن في ديوان «زورق على شاطئ الانتحار».
هي جرأة فعلاً الخطوة التي أقدم عليها الشاعر جورج شامي، عندما قرّر نشر أشعار وخواطر كتبها يوماً وهو في أوج الشباب وقمّة المشاعر المتخبّطة.

عمر المراهقة هو عمر الضياع، البحث عن الهوية، محاولة التجذّر في مجتمع ما، يُنهك الإنسان في بدايات عمره فتتشكّل داخله مشاعر متخبّطة، قاتمة، وحزينة، تدفع أحياناً إلى الانتحار. قد يكون شامي وجد آنذاك أنّ دواء روحه هو الكتابة، فخطّ مشاعره هذه شعراً داكناً، يوحي بالموت لكن بقالبٍ أدبي جميل، وهو خير دليل على أنّ كتابة الشعر مداواة النفس المتألّمة.

«زورق على شاطئ الانتحار» الصادر عن مؤسسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان، أهداه شامي إلى «روح غزالة أحلامي، أليدا، التي ركع لها المجوس، وصلّوا». فيقول في إهدائه هذا: «كتبتُ هذه الشذرات على دفعتين، الأولى عام 1949، والثانية عام 1955، وأنا في قمّة المراهقة، فجاءت مشحونة بالقلق والإحباط واليأس».

من الجزء الأول للديوان بعنوان «الصمت والمحبة حطّما وجهي»، تتبيّن معالم المشاعر السوداوية، فلا مهرب من تذكّرنا نفسنا المراهقة التي أخذتنا يوماً إلى عالمٍ ضائع لا أرض فيه ولا سماء، فارغ من الحياة ومن الأمان: «تابوتي سرعة نسبية / دوران أعمى / خط مستقيم، عليه جثّة / نفسٌ فارغة مخيفة».

ص 9

في كلّ كلمة إيحاء بالموت والهروب وحتى الأفكار الإيجابية تتحوّل سلبية في النهاية، فهذه هي روح المراهق التي وجد في الشعر ملاذاً يحتمي فيه من عواصف الحياة وزوابع العالم. «ما أغرب ضحكي.../ لم يدركه ليلي / فجري مرآة / خطوط، أرقام، / أين وجهي؟ / أوهامٌ! أوهام!»

ص 15

بخيلٌ شامي في شعره، شذراته قصيرة، مقتضبة لا تلحق أن تبدأ حتى تنتهي. فالشعر اختزال وجماله في قصر أبياته. وشامي سيّدٌ في الشعر، يعرف كيف يوجّه القارئ نحو عمقه، يمسك يده ويقوده نحو المعنى، ليتركه بعدها في وسط الأفكار والمعاني، يبحث هائماً عن المعنى الأصحّ ليجد في النهاية نفسه وباطنه. وينطلق شامي من أعماق نفسه هو ليُدخلنا معه عالم النفوس الفسيح حيث تناقضات الحياة أسياد: «عشرون عاماً... / أتّجه في كذب/ بأقدام ثابتة ووضوح / ابتعدتُ، ابتعدت / رفيقي حرفٌ صامت / ارتفعتُ، ارتفعت / ملكتُ في اكتفاء وتواضع».

ص 19

في الجزء الثاني «المجوس... وجحيم الأمل»، يبدأ شامي بشذرة من شذراته، تبتعد في معناها عن معاني قصائد الجزء الأول. فنتحضّر بعد قراءة القصيدة الأولى إلى مشاعر الحبّ المتألّم ولكن المليء أملاً: «عَبَدَكِ المجوس/ شفاء.../ وتبقين في عمقي/ جحيماً له أمل».

ص 35

وفي أوج مشاعر الحب، وفي قلب القصائد المليئة حباً وألماً، يبسط شامي مشاعره في العشق واصفاً الحبيبة بكلمات بعيدة عن الموت، لتكون القصيدة الإيجابية الوحيدة في الديوان: «إضحكي، إضحكي/ شفاهٌ، أسنان/ قلبٌ، لذّة، رؤى ونسيان/ امرأة للأرض/ نعومة وثياب/ ضجيج ألوان/ مظهر وهيام».

ص 38

من أصدق أنواع الوفاء، وفاء الشاعر لقصيدته، فبعد عمرٍ طويل لم يتخلّص شامي من شذرات مراهقته بل احتفظ بها وأظهر ولاءه لها اليوم، عندما نشرها في ديوان «زورق على شاطئ الانتحار»، فيقول في إهدائه: «شذراتي رفضَتها آنذاك زوجتي لأنها خالية من أيّ بريق بعيد الرؤية والأمل بمستقبل زاهر... ولكنني لم أتخلّص منها، بل حافظت عليها في أدراج الرياح العاتية، تعصف بها وتطير، كلّما عصفت عواصف الحنين إلى الذكريات... وأنا، اليوم، أنشرها على الملأ، من دون أيّ تحريف، غير هيّاب في غياب من كانت غزالة أحلامي».
الأكثر قراءة