لبنان يتخبّط في مأزقين مفتوحين على شتى الاحتمالات، لا يبدو تلوح في أفقهما حلحلة او انفراجات، فالمأزق الأمني يتفاقم على الجبهة الجنوبية، بدأت تتدحرج في الأيام الاخيرة نحو مستويات اكثر تصعيداً وعنفاً، ولم تفلح الوساطة الاميركية في تبريدها او اخراجها من دائرة الاحتمالات الحربية التي تتهدّدها. واما الجبهة الرئاسية فمحكومة بذات العقليات والتوجّهات التي تنتهج منذ ما يقرب من سنة ونصف مساراً معمِّقاً للشرخ الداخلي، وتجترّ يومياً الاسباب المانعة لانتخاب رئيس للجمهورية.
لا رئيس للجمهورية!
الجبهة الرئاسية، وكما تؤشر كل الوقائع والحراكات المرتبطة بها، لا تشي بانفراج وشيك، بل على العكس من ذلك، فإنّ أفقها مسدود بالكامل، على ما يقول مرجع مسؤول معني بالملف الرئاسي، الذي أبدى تخوّفاً جدّياً من أن يبقى لبنان بلا رئيس للجمهورية لمديات طويلة.
وقال لـ«الجمهورية»: «سنة ونصف وما زلنا نلف وندور في ذات الحقل الملغّم بالتناقضات، ولم نلحظ اي تراجع من اي طرف عن شروطه، التي أحبطت المساعي الداخلية ومحاولة صياغة التوافق على رئيس، وهزمت الجهود الفرنسية، وكذلك القطرية، وخيّبت جهود اللجنة الخماسية من دون ان تستغل فرصة الحل التي توفّرها لإعادة انتظام الحياة السياسية في لبنان، وهذا يؤكّد بما لا يقبل ادنى شك بأنّ بعض الاطراف الفاعلة في لبنان، لا تريد رئيساً للجمهورية، بل لا تريد بلداً. وهذا ما يعزز لديّ اليقين بأننا سنبقى على هذا الحال من الفراغ الرئاسي، ليس فقط حتى نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي بل لسنوات طويلة».
بري: التوافق
في هذا الإطار، يؤكّد رئيس مجلس النواب نبيه بري مجدداً لـ«الجمهورية»، انّ «المسار الطبيعي لحلّ الأزمة الرئاسية، هو الجلوس على طاولة حوار او نقاش او تشاور، او تحت اي عنوان، أقلّه ليوم واحد ولمدة اسبوع على الأكثر، لصياغة توافق على انتخاب رئيس للجمهورية، هذا هو المعبر الإلزامي الذي ينبغي على كل المكونات سلوكه بعيداً من المزايدات والمناكفات، ويلي ذلك نزولنا الى المجلس النيابي في جلسات متتالية لانتخاب الرئيس».
والرئيس بري، الذي رحّب بحراك «اللجنة الخماسية»، وتوافق مع سفراء دولها الخمس على أولويّة الحوار للتوافق على رئيس، ما زال يراهن على اختراق ما تحقّقه هذه اللجنة، وفي جانب آخر، تمنّى لو أنّ الاطراف السياسية تجاوبت فعلاً مع حراك نواب «كتلة الاعتدال»، وهو حراك مشكور، حرصوا من خلاله على محاولة تحقيق الهدف الذي نسعى اليه بالتأسيس لتوافق على انتخاب رئيس للجمهوريّة.
واشار بري الى أنّه سيلتقي اليوم السبت، بنواب الاعتدال، مؤكّداً انّّ الجهد ينبغي الّا يتوقف حتى تحقيق الغاية التي ننشدها، ونُخرج رئاسة الجمهورية من حلقة التعطيل، ولا مفرّ في نهاية المطاف من التوافق على رئيس، وخصوصاً اننا في ظرف تحتّم علينا تحدّياته الشروع فوراً في تحصين داخلنا بدءاً بانتخاب رئيس الجمهورية.
الجنوب ينتظر غزة
واما على المقلب الجنوبي، فإنّ الجبهة الحربية معلّقة على خط التصعيد في انتظار ما ستؤول اليه مفاوضات هدنة غزة التي تتأرجح بين التعثر والشروط والتعقيدات، وهو ما تؤكّده لـ«الجمهورية» مصادر واسعة الاطلاع شاركت في اللقاءات مع الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين، حيث قالت: «كل شيء معلّق على هدنة غزة، فإن تمّ التوصل الى هدنة هناك، تهدأ الجبهة هنا، وهوكشتاين سيأتي الى لبنان مرّة جديدة، لكن زيارته وكما علمنا، محكومة بتطورات هدنة غزة، حيث انّها إنْ تمّ التوصل اليها، فسيحضر لتثبيت الهدنة على الجبهة الجنوبية، وفق مشروع حلّ سياسي مدعوم برغبة قويّة من الإدارة الاميركية بتبريد جبهة الجنوب وعدم توسع دائرة الحرب.
على انّ المصادر عينها لا تقلّل من حجم التعقيدات التي تعترض مشروع الحل الأميركي، نافية ما يُقال من هنا وهناك عن أنّ الطرح الجديد الذي حمله هوكشتاين اكثر ليونة من الطروحات السابقة، وقالت: «بمعزل عن اي اجراءات او ترتيبات لأي حل، فإنّ موقفنا واضح، وكرّرناه بصراحة واضحة امام الوسيط الأميركي، بأنّ لبنان ملتزم بشكل كامل ونهائي بالقرار 1701، وندعو الى تطبيقه كاملاً بكل مندرجاته، وليس تطبيقاً مجزّءاً او مجتزأً. والأهم هو توفير الدعم الكامل للجيش للجيش اللبناني بكل الإمكانات والقدرات التي تمكّنه من القيام بواجباته في منطقة عمل القرار 1701 على اكمل وجه. نحن مع حلّ يضمن أمن لبنان، وليس مع حل يضمن أمن اسرائيل ويتيح لها ان تحقق مكاسب على حساب لبنان وسكان المناطق الجنوبية القريبة من الحدود».
الحل بيد الاميركيين
وسألت «الجمهورية» مسؤولاً كبيراً عمّا اذا كان يأمل حلاً من الحراكات الجارية لتبريد جبهة الجنوب، فقال: «في الوضع كما هو حاصل اليوم لا أرى اي امل، اما عندما نرى انّ الهدنة قد تحققت في غزة وتوقف اطلاق النار، فساعتئذ يمكن القول انّ هناك املاً في ان نبلغ حلاً على جبهة لبنان. والكرة في رأينا هي في يد الاميركيين، فهم يقولون بأنّهم يتهيّبون من الحرب ولا يريدونها كي لا تتمدّد الى حرب واسعة على مستوى المنطقة، والحلّ بيدهم هو لجم اسرائيل ومنعها من تصعيد الموقف، وهم قادرون على ذلك. في اللقاءات والنقاشات نسمع كلاماً، ولكن على الأرض لا نلمس أفعالاً، ولا نصدّق انّ الولايات المتحدة لا تستطيع ان تمارس ضغوطاً على اسرائيل لوقف اعتداءاتها على لبنان».
ورداً على سؤال عن احتمالات الحرب، كشف المسؤول عينه انّ غالبية الديبلوماسيين والموفدين الاجانب نقلوا الينا في اوقات سابقة تحذيرات من جدّية التهديدات الاسرائيلية، وقالوا انّ الكلام عن الحرب يجب وضعه في سلة الاحتمالات الممكنة. الاّ انّ الجواب عن هذا السؤال يجب ان يُستخلص من النقاشات الدائرة داخل اسرائيل، التي تحذّرها من هذه الحرب ومن أكلافها الكبرى الآنية والمستقبلية على اسرائيل، والبنتاغون سبق له، في موازاة التهديدات الاسرائيلية للبنان أن اعدّ تقريراً خلص فيه الى استحالة ان تحقّق اسرائيل انتصاراً في حرب تشنّها على لبنان.
وحول ما نشره الاعلام الاسرائيلي عن تحضير خطة اسرائيلية لعملية ضدّ لبنان، قال: «كل لبنان سيكون في هذه الحالة في موقع الدفاع عن بلدنا ومقاومة اي عدوان علينا».
عملية برية؟
وكانت القناة الـ13 الاسرائيلية قد ذكرت امس انّ رئيس هيئة الأركان الاسرائيلي هرتسي هاليفي أوعز بإعداد خطط لعملية برية ممكنة في لبنان واستخلاص الدروس من حرب غزة. ولهذه الغاية كلّف هاليفي معدّ خطط العملية البرية في قطاع غزة الجنرال تشيكو تامير بالتخطيط لعملية برية جديدة في لبنان.
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، كما ذكرته القناة 13 نفسها بأنّ الجيش الاسرائيلي غير قادر الآن على غزو لبنان وتأسيس حزام حتى نهر الليطاني، أو إبعاد جميع عناصر «حزب الله» عن الحدود»، وقالت: «لقد استيقظنا من هذا الحلم للأسف».
وفي السياق نفسه، اشار الاعلام الإسرائيلي الى أنّ «هناك نفياً قاطعاً في إسرائيل في شأن وجود مواعيد مثل 15 آذار، امام «حزب الله» من أجل الاتفاق السياسي».
وفي جانب آخر، تحدّثت وسائل إعلام إسرائيلية، عن صعوبة العودة للعيش في مستوطنات الشمال، وعن الصعوبة التي يجدها «الجيش» الإسرائيلي في حماية المستوطنين. وقالت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، إنّ المستوطنين الذين تمّ إجلاؤهم من الشمال لا يزالون بعيدين من مستوطناتهم، وينتظرون منذ 5 أشهر استجابة من صنّاع القرار، ومن المتوقع أن يجتمع رؤساء المستوطنات المُخلاة من الشمال في يوم الأحد، بعد 5 أشهر من عدم اليقين والإحباط والخوف على مستقبلهم. ونقلت عن رئيس مجلس شلومي قوله: «يجب أن نذهب إلى القدس ونطالب بإجابات، لأننا نشعر أنّه تمّ التخلّي عنا، وأنّ الحكومة تتجاهلنا».
وقال موشيه دافيدوفيتش، رئيس المجلس الإقليمي لماتيه آشر ورئيس منتدى خط المواجهة، وفقاً للصحيفة: «الوعود التي أُعطيت لنا سُجّلت على لوح ثلج، والدولة تواصل جعل الأمور صعبة على أصحاب الأعمال والمزارعين، وعلى المستوطنين الواقعين تحت الحرب دون أمل ودون أي يقين، بينما تعيش الدولة كما لو أنّه لا توجد حرب».
وذكرت الصحيفة، أنّه في الأشهر الأخيرة، «كان الشمال في حالة حرب لا تتوقف»، مضيفةً أنّه يتمّ إطلاق الصواريخ والقذائف المضادة للدروع وقذائف الهاون ومسيّرات انتحارية من لبنان كل يوم، ولا تزال المنطقة التي أصبحت «حزاماً أمنياً إسرائيلياً» شبه مهجورة.
وقد تطرّقت تقارير إسرائيلية عديدة إلى الواقع الحالي للمستوطنات الشمالية، فأشارت إلى أنّها تحولت في الأشهر الأخيرة إلى إحدى أكثر المناطق خطورة في إسرائيل، إذ لحق بها ضرر هائل أصاب نحو 500 منزل، وبنى تحتية مختلفة. ووفق التقارير، لحقت بمستوطنات الشمال أضرار طالت المصالح الاقتصادية التي تعطّلت بشكل شبه تام، فتوقفت نشاطات السكان الزراعية والتجارية هناك.
وفي وقت سابق، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنّ «الإنجاز الأكبر في الشمال هو لـ«حزب الله» بإبعاد نحو 100 ألف إسرائيلي عن منازلهم».
الوضع الميداني
وكانت الجبهة الجنوبية قد حافظت على وتيرة عالية من التصعيد، حيث كثف الجيش الاسرائيلي اعتداءاته على المناطق اللبنانية، وشنّ الطيران الحربي الاسرائيلي سلسلة غارات جوية استهدفت برعشيت ما ادّى الى سقوط جريحين، واللبونة، ومحيط جبل بلاط في القطاع الغربي، وحرج الحدب وخلة وردة في عيتا الشعب، اطراف عيتا الشعب ورامية، وحي المشاع بين مجدل زون والمنصوري. وترافق ذلك مع قصف مدفعي لبلدات منطقة العرقوب وكذلك على تلة المطران في محيط الحمامص، وتلة الرويسة بين حولا وميس الجبل، وحي كركزان شمال بلدة ميس واطراف بلدة كونين واطراف عيترون وبرعشيت. وذلك وسط تحليق كثيف للمسيّرات والطيران الحربي الذي بلغ في طلعاته اجواء العاصمة بيروت.
وفي المقابل، اعلن «حزب الله» انّ «المقاومة الاسلامية» استهدفت تجمعاً لجنود العدو في محيط موقع جل العلام بصاروخ «فلق 1»، وتجمعاً آخر لجنود العدو وآلياته شرق موقع السماقة في تلال كفر شوبا، وموقع رويسات العلم في تلال كفر شوبا، وانتشاراً لجنود العدو في محيط موقع الراهب. كذلك اعلن الحزب عن استهداف مرابض مدفعية العدو في «ديشون». وذكرت وسائل اعلام اسرائيلية انّ صواريخ عدة سقطت في منطقة شتولا في الجليل الغربي.
ونعى «حزب الله» الشهيد فضل عباس كعور (جواد) من بلدة بليدا، والشهيد هادي محمود حجازي (حيدر) من بلدة بليدا، والشهيد علي امين مرجي (فلاح) من بلدة بليدا.
تقرير «رويترز»
الى ذلك، خلص تحقيق أجرته وكالة «رويترز» بالتعاون مع منظمة هولندية مختصة، إلى أنّ دبابة إسرائيلية استهدفت بقذيفتين مجموعة من الصحافيين كانوا يصوّرون قصفاً عبر الحدود في جنوب لبنان في 13 تشرين الأول الماضي، وهو ما أسفر عن مقتل مصور «رويترز» وجرح 6 صحفيين آخرين.
وجاء في تقرير نهائي عن حادث الاستهداف «أنّ دبابة إسرائيلية تبعد نحو كيلومتر ونصف عن المكان الذي كان الصحافيون يوجدون فيه، أطلقت قذيفتين من عيار 120 مليمتراً على الصحافيين الذين كانوا يرتدون ما يميزهم بوضوح كصحافيين.. وقتلت القذيفة الأولى مصور «رويترز» عصام عبد الله (37 عاماً) وأصابت مصورة وكالة «فرانس برس» كريستينا عاصي (28 عاماً) بجروح خطيرة وفق التحقيق.
ورجّح تقرير المنظمة، التي تعاقدت معها «رويترز» لتحليل الأدلة المتعلقة بالهجوم، أنّ طاقم الدبابة الإسرائيلية فتح النار على الصحافيين بمدفع رشاش ثقيل في هجوم استمر دقيقة و45 ثانية، وذلك بعد استهدافهم بقذيفتين. وجاء في التقرير: «يعدّ استخدام دبابة «ميركافا» لمدفعها الرشاش ضدّ موقع الصحفيين بعد إطلاق قذيفتي دبابة سيناريو مرجّحاً». واضاف: «لا يمكن التوصّل إلى نتيجة مؤكّدة لأنّه لا يمكن تحديد الإتجاه والمسافة الدقيقة لنيران (المدفع الرشاش).
وحاول الجيش الإسرائيلي تبرير استهداف الصحافيين عندما ادّعى في إطار ردّه على أسئلة تلقّاها من «رويترز» بشأن تقرير المنظمة، أنّه ردّ على هجمات شنّها مقاتلون من جماعة «حزب الله» اللبنانية في 13 تشرين الأول بالقرب من «كيبوتس هانيتا» بنيران المدفعية والدبابات «لإزالة التهديد» وفق تعبيره، وقال إنّه تلقّى بعد ذلك تقريراً يفيد بأنّ صحافيين قد أصيبوا.