لدى الولايات المتحدة الأميركية أولويتان معلنتان، الأولى، الدعم اللامتناهي لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، والأولوية الثانية عدم توسيع دائرة الحرب الى ساحات اخرى.
واشنطن تريد لإسرائيل أن تخرج من هذه الحرب منتصرة، وتمنحها مزيداً من الوقت لكي تحقّق هدفها بكسر حركة «حماس» وإعادة الأسرى. ثمة من يتحدّث عن وقت مفتوح، وثمة من يحدّد مداه نهاية الشهر الجاري، أو نهاية الأسبوع الأول من الشهر المقبل؟
قد يصح الرأيان، ولكنْ ما يعزّز الرأي الثاني، هو انّ أقصى ما حقّقته اسرائيل بعد شهرين من حرب الدمار الشامل لغزة والإبادة لشعبها، هو أنّها عبّرت عن نفسها في أن تُحدث اكبر مقبرة جماعية للمدنيين في التاريخ. واما في المواجهات الطاحنة في شوارعها، والتحام المقاومة الفلسطينية مع الجيش الاسرائيلي ومباغتته من تحت ركام غزة وصعوداً من إنفاقها، فلم ينطق الميدان العسكري بالنصر لاسرائيل، بل على العكس كان لهذا الميدان رأي آخر مفاده أنّ «حماس» ما زالت موجودة، ولم يتمكّن الجيش الاسرائيلي من إعادة أسير واحد أو تحقيق هدف الحرب الذي تدرّج من كسر «حماس» الى إضعاف قدراتها. واكثر من ذلك بدأ الإعلام الاسرائيلي يكشف عن أعداد ضخمة للإصابات في صفوفه.
الجيش الاسرائيلي يعترف بقساوة المواجهات وصعوبتها، ويقول انّه ما زال في حاجة الى شهر للحسم، ولكن مهما طال أمد الحرب، فإنّ نتيجتها محسومة سلفاً. هنا يبرز كلام واضح للرئيس نبيه بري يقترب من اليقين، بأنّ «حماس» ستخرج منتصرة من هذه الحرب». وهو على ثقة أكيدة بأنّ «تأثيرات هذه الحرب على بنيتها العسكرية والقتالية لا تتجاوز 5 او 6 في المئة، وتستطيع أن تقاتل شهوراً».
في هذه الحرب ارتكبت اسرائيل ما يصفها برّي بـ«جريمة العصر»؛ إجرام في منتهى الفظاعة، مجازر مروّعة، قتلوا فيها حتّى الآن، وعن سابق تصوّر وتصميم، أكثر من 7500 طفل واكثر من 5000 امرأة، وانتقموا حتّى من ألعاب الاطفال». وفي بداياتها قال لمن زاره من الأميركيين ما مفاده: «هذا الوضع، وهذا الضغط، وهذا الحصار، وهذا التنكيل الحاقد بالشعب الفلسطيني، وهذا الإجرام غير المسبوق، وهذا التغاضي الدولي، وهذا الغطاء والدعم للقاتل، سيحوّل الشعب العربي كله إلى شعب فلسطيني.. «يعني كلنا بدنا نصير فلسطينيين، والشعب الفلسطيني كله بدو يصير حماس».
انتصار اسرائيل اولوية اميركية، لكن وقائع الميدان العسكري في الجنوب واستهداف «حزب الله» للمواقع الاسرائيلية، أنبتت الى جانبها أولويّة تبريد جبهة؛ بقدر ما تشكّل مصدر إرباك وإقلاق واستنزاف للجيش الاسرائيلي، تشكّل فتيل تفجير لمواجهات اوسع خارجة عن السيطرة على مستوى المنطقة. فتدرّجت واشنطن في خطابها من تهديد «حزب الله» من مغبة توسيع الحرب، الى التحذير من انزلاق لبنان إلى الحرب، إلى التخويف من حرب أقسى من حرب تموز 2006، وعواقبها وخيمة على لبنان، ثم الى ليونة في الخطاب، تجلّت في اعلان واشنطن انّها لا تريد أن يتمدّد الصراع الى لبنان، وتشديدها على عودة الهدوء وأولويّة استقرار لبنان، وبذل كلّ جهد ممكن لمنع انحدار الوضع على الحدود اللبنانية إلى مواجهات واسعة.
فرنسا انحازت علناً إلى جانب اسرائيل في حربها جملةً وتفصيلاً، وشاركت واشنطن موقفها بعدم توسّع دائرة الصراع. الداخل اللبناني انقسم حول موقف باريس، بين مؤيّد وبين مستنكر مترحِّم على «فرنسا الحرّيات وحقوق الانسان». ومن دون مقدّمات، ركّزت على لبنان، وصنعت لنفسها حضوراً في ملفاته المعقّدة. وعلى ما يتندّر أحد السيّاسيّين «عادت لتلبس ثوب العاشق المشتاق، وتمنحنا فائضاً في محبتها لنا» (؟!). وسيّرت قافلة حجّ سياسي لموفدين الى لبنان بدءاً بوزيرة الخارجية كاترين كولونا، ثم جان ايف لودريان، ثمّ برنار ايمييه، ثم وفد مشترك يمثل وزارتي الدفاع والخارجية الفرنسيتين، وليس معلوماً من سيأتي بعد».
أصرّ هؤلاء الموفدون على احتواء التصعيد جنوباً ومنع تمدّد الحرب من غزة إلى لبنان، وعلى التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون. هذا الاصرار المزدوج بدا موصولاً بشعرة قلق فرنسي من حدوث فراغ في قيادة الجيش، يتولّد عنه إرباك في المؤسسة العسكرية، وخوف جدّي على الجيش، يولّد بدوره خوفاً على قوات «اليونيفيل»، وعلى الوحدة الفرنسية التي تشكّل عنصراً اساسياً في هذه القوات. فعدم وجود قيادة للجيش كما يعتبر الفرنسيون، يعني عملياً «ما في جيش»، و«اليونيفيل» تقوم بمهامها بالتنسيق مع الجيش، فإنْ لم يكن هناك جيش فماذا ستفعل «اليونيفيل» والوحدة الفرنسية من ضمنها؟ وكيف ستؤدي دورها؟ بل كيف ستتعاطى مع دولة من دون جيش؟ واكثر من ذلك، ما هو مصير مهمّتها بصورة عامة؟
في موضوع الجيش يقول الرئيس بري إنّ حسم هذا الموضوع من واجبات الحكومة اولاً وأخيراً وليس من واجب المجلس النيابي، اما وأنّ هذا الأمر لم يحصل في الحكومة، فسينتقل تلقائياً الى المجلس، ونحن ككتلة نيابية سننزل الى البرلمان ونصوّت مع التمديد، وخصوصاً منصب قائد الجيش منصبٌ حساس جداً، فضلاً عن انّ الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تعمل، وبالتالي لا يجوز ابداً أن يصيبها أي خلل. وكما ترون جميعاً، إسرائيل كثفت اعتداءاتها على الجيش في الجنوب، فتصوّروا ماذا كان يمكن أن يحصل لو لم يكن هناك قائد للجيش؟
واما في موضوع الجبهة الجنوبية، فيلفت بري إلى أنّ حركة «أمل» ليست طرفاً في الحرب، وأنا شخصياً أعمل لعدم توسّع الحرب، وثمة تواصل بيننا وبين «حزب الله» حول الحفاظ على قواعد الاشتباك. علماً أنّ الحزب من بداية الحرب وحتى الآن لم يخرج في عملياته ضدّ جيش العدو، عن قواعد الاشتباك، حيث انّه يركّز حصراً على المواقع العسكرية، ونحن معه في ذلك، بينما اسرائيل هي التي تخرق القواعد يومياً بتوسيع دائرة اعتداءاتها واستهدافاتها المتتالية للمدنيين. في الخلاصة، لا توجد اي نية لدينا بتوسيع الحرب، ولكن إنْ بادرت اسرائيل الى حرب، وشنّت عدواناً على لبنان، فآنئذ الأمر يختلف، وسنواجهها، وغضب الله سينزل عليها.
إلى جانب العنوانين ملفي التمديد والتبريد، استحضر الموفدون الملف الرئاسي من باب التذكير به لا أكثر، مع إقرار بأنّه ليس ناضجاً بعد، وينبغي انضاجه، وما خلا ذلك، لم يتطرّق الموفدون الى أي عنوان آخر، فلا الاميركيون تحدثوا عن ترتيبات في الجنوب او عن تسوية برية او عن القرار 1701، ولا الفرنسيون فعلوا ذلك.
يقول الرئيس بري: «لم يأتِ احد على ذكر القرار 1701 سوى الإعلام اللبناني، وقبل وصول الموفدين، قرأت عنه مرات عديدة في الجرائد والإعلام، وظننت انّهم سيطرحونه معي حينما التقي بهم، ولكن جاء لودريان، وبعده ايمييه، ولم يأتِ أي منهما على ذكر هذا الموضوع من قريب او بعيد».
ويضيف: «صحيح أنّنا نسمع دعوات الى تطبيق القرار 1701، وهذا امر جيّد، وخصوصاً اننا في لبنان متمسكون بهذا القرار وملتزمون به، ونحن أكثر من يطالب بتطبيقه وإلزام اسرائيل بذلك». وفي موازاة الحماسة التي يبديها البعض حول القرار 1701، وحديثهم عن ترتيبات ودعوات لانسحاب «حزب الله» من منطقة الحدود، يقول بري: «هذا القرار هو قرار دولي، أتى بوضوح على ذكر مزارع شبعا مرّتين. وحدود لبنان الدولية معروفة ومحدّدة من سنة 1943، وهناك بعض النقاط الخلافية على الخط الازرق جرت معالجة بعضها وتبقى بضع نقاط ما زالت عالقة وتحتاج الى معالجة. وبالتالي هذا القرار واضح وصريح، فهل المطلوب ان ينسحب اللبنانيون من أرضهم، ام انّ المطلوب هو أن تنسحب اسرائيل من الأراضي اللبنانية التي تحتلها خصوصاً في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا؟».
عندما يُسأل بري عن رئاسة الجمهورية، يردّ بسؤال: «لو كنا انتخبنا رئيساً للجمهورية في وقت سابق، فهل كنا نصل الى ما وصلنا اليه اليوم من تخبّط وإرباك؟».
ويضيف: «أصل المشكلة معروف وواضح، المشكلة مارونية - مارونية، حيث لكل طرف اعتباراته، و«زعلهم» من هذا الكلام، لا يغيّر أبداً في حقيقة أنّ جوهر المشكلة هنا. قلت لهم دعونا نستفيد من هذا الظرف وننتخب رئيس الجمهورية، ولكنهم مع الأسف لا يريدون ان يسمعوا.. ورغم ذلك فإنني ما زلت اكرّر هذه الدعوةّ».
لا مبادرة رئاسية جديدة لدى رئيس المجلس حالياً، «فقد سبق لي أن اتحت لهم أهم فرصة لانتخاب رئيس، وحتى الآن لا اعرف لماذا رفضوها، اقترحت إجراء حوار سقفه سبعة ايام، وبناءً على ما نصل اليه في هذا الحوار، سواءً بالتوافق على مرشح او على مرشحّين او اكثر، ننزل الى المجلس النيابي ونبقى فيه حتى انتخاب رئيس للجمهورية. فسمير جعجع اوّل من رفض، وجبران باسيل اعتبر في اول يوم أنّ دعوتي ايجابية، ولكنه عاد في اليوم الثاني ووضع اربعة شروط على طريقة «اللي ما بدو يجوّز بنتو بيغلّي مهرها».
في كلام بري حسرة على هذا البلد، يعبّر عنها بقوله: «بلدنا جميل، لبنان امبراطورية منتشرة في كل العالم، واينما وجد لبناني في اي بقعة من هذا العالم فهو لامع، الاّ في بلده.. لقد انهكتنا الطائفية».